الاثنين، 3 يوليو 2023

كيف فجّر خطاب الكراهيّة الفرنسيّ الاحتجاجات الشّعبية ؟

 


https://arabicpost.net/opinions/2023/07/03/%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d8%ac%d8%a7%d8%ac%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d8%a7-2/


تعيش فرنسا منذ 27 جوان الماضي على وَقْع احتجاجات شعبيّة غاضبة واسعة تتصدّرها مشاهد الحرائق و الإتلاف و السّلب و النّهب بعد حادثة قتل الفتى نائل ( 17 سنة ) ذي الأصل الجزائريّ من طرف الشّرطة في نقطة تفتيش.و بعيدًا عن متابعة تفاصيل هذه الاحتجاجات و حجمها و توقيتها و أماكنها و نتائجها يتعيّن الوقوف عند مَكْمن الدّاء و تعيين الأسباب الأولى لهذه الانزلاقات الخطيرة،في فرنسا، التي تبدأ بمواقف عدائيّة و إقصائيّة ضدّ الأجانب لتصل إلى حدّ إباحة القتل و محاولة تبريره فيصبح،في هذه الحال، الفتى القتيل هو المتَّهَم و هو الجاني.و إنّ الوقوف عند مَكْمن الدّاء يُمكِّننا أو يُقرّبنا من فهم دوافع هذا النّوع من الاحتجاجات التي تتكرّر،في فرنسا،و تتصاعد حدّتُها في كلّ مرحلة و حين.

 

أزمة الخطاب السّياسي الفرنسي

ليس من المبالغة و الشّطط القول بأنّ المسؤول الأوّل عن الأحداث الجارية،في فرنسا، و التي أَعْقبت القتل المتعمّد لنائل من طرف الشّرطة هو الخطاب السّياسي الفرنسيّ الرّسمي و الحزبيّ الحاقد و الإقصائيّ ضدّ الأجانب الذي يتوسّع و يتنامى منذ عقود.

و هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ الإقصائي المتطرّف الذي سلّح معنويًّا اليد التي قتلت نائل لا نكاد تجد له نظيرًا أو منافسًا في عموم أروبّا.و حتّى في دول الشّمال كالسّويد أو الدّانمارك التي تستعلن فيها مظاهر العداء للعرب و المسلمين لا وجود فيها لخطاب رسميّ منظَّم حاقد و إقصائي ضدّ الأجانب و إنّما هي مواقف و مظاهر يقودها أشخاص و هيئات لا تَحظَى بالقبول و الاهتمام في الغالب.

هناك،إذن، خصوصيّة فرنسيّة في الموقف من الأجانب و لا سيّما العرب و المسلمين.فهل هناك من تفسير لهذه الخصوصيّة ؟ و ما هي أسباب هذا السّلوك العدائيّ ؟

لعلّ التّاريخ و أحداثه قد يُسعفنا في تقديم رؤيا مناسبة لفهم هذه الخصوصيّة و اكْتناهها أو الاقتراب منها على الأقلّ.و على هذا الأساس يمكن القول تفسيرًا لهذه الخصوصيّة الفرنسيّة إنّ الموقف من الأجانب لدى الطّبقة السّياسية الفرنسيّة،في فرنسا، و لدى مجموعة من المثقّفين إنّما هو من مخلَّفات أو عقابيل الحروب الصّليبيّة.و قد استَعْلنت هذه أو العقابيل في حملات الاستعمار الفرنسيّ المختلفة و أشار إليها الجنرال الفرنسيّ هنري غوريو (1946-1867) حين دخل دمشق سنة 1920 و وقف عند ضريح صلاح الدّين الأيّوبي قائلاً: ( الآن عُدنا يا صلاح الدّين ).

إنّ اليمين التّقليدي و اليمين المتطرّف،في فرنسا، مضافًا إليهما طوائف من المثقّفين و السّياسيّين الفرنسيّين المَدعُومين إعلاميًّا-  هؤلاء جميعًا لا يزالون يعيشون في الماضي و أنّ فرنسا بلد حقوق الإنسان و بلد الحرّيات و التّنوير،كما تحبّ أن تُوصَف، مريضة بدائها القديم و بعُقدتها الصّليبيّة و عقدتها الاستعماريّة و أنّها لم تستطع التّخلص تخلّصًا كافيًا شافيًا من فكرها الصّليبي و موروثها الاستعماريّ الذي يصنع،اليوم، مواقفها العدائيّة و الإقصائيّة من الأجانب و لا سيّما العرب           و المسلمين و هم،في الأصل، مواطنون فرنسيّون.

و قد يجد هذا الإثبات مصداقيّته إذا ما علمنا أنّ الحروب الصّليبيّة الأولى (1099-1096) بدأت من فرنسا حين قام البابا أوربان 2 ( Urban 2 ) بعمليّات الحَشد و التّهييج في أريافها في 27 نوفمبر 1095.و من المفارقة و العُجاب أنّ فرنسا التي تتّخذ العلمانيّة دينًا و مذهبًا و تتبجّح بالعلمانيّة صباحَ مساء و تحارب المظاهر الدّينية و الثّقافية للأجانب باسم العلمانيّة تُصرّ على تأكيد هويّتها المسيحيّة في أعلى مستوى في السّلطة،في المناسبات الكبرى، و لا يَفُوتها الإشارة إلى الرّوابط القديمة بينها و بين ماضيها الكَنَسيّ.و مثال ذلك ما قاله الرّئيس الفرنسي السّابق جيسكار ديستان ( 1926 -2020 ) في خطابه حين استقباله البابا يوحنّا بولس الثّاني ( 1920-2005 )  في 30 ماي 1980 قائلاً: ( الشّعب الفرنسي يرحّب بكم في هذه البلاد التي تعتبر منذ زمن طويل الابنة الكبرى للكنيسة .(

إنّ هذه الالتفاتة إلى التّاريخ و محاولة استنطاقه قد تُعيننا على فهم ما يحدث في الفضاء السّياسي الفرنسي الذي تتنامى فيه ظاهرة العداء للأجانب و لثقافاتهم لأنّ العلمانيّة بمفهومها الأصليّ و قوانينها المختلفة التي كانت تستهدف إصلاح التّعليم،في فرنسا، و وضع حدّ لهيمنة الكنيسة على التّعليم الابتدائي في نهاية القرن التاسع عشر مضافًا إليها قانون 01 ديسمبر 1905 الذي قضى بتحقيق الفصل بين الكنيسة و الدّولة – هذه العلمانيّة ليس فيها البتَّةَ ما يفسّر ظاهرة العَداء و الإقصاء ضدّ الأجانب و سلوكات التّمييز العنصريّ التي هم ضحاياها.

إنّ هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ الإقصائي المتطرّف ضدّ الأجانب لا يوجد له نظير في عموم أروبّا كما سبقت الإشارة إليه.و لكنّ فرنسا استطاعت تصدير هذا الخطاب السّياسي المتطرّف إلى مناطق نفوذها و مستعمراتها القديمة.مثال ذلك ما يحدث في أكبر مقاطعتَين في كندا و هما الكِبيك و الأُونْتاريو: ففي الكِبيك الفرنكفونيّة،كما ذكر لي بعض العرب و المسلمين، تجد استنساخًا لهذا الخطاب الفرنسيّ الإقصائيّ المتطرّف ضدّ الأجانب و جدلاً محمومًا حول موضوع الهويّة   و الإسلام و الحجاب...أمّا في مقاطعة الأُونْتاريو الناطقة بالأنجليزيّة فلا وجود لهذا الخطاب و لا وجود لهذا الجدل المحموم.و كثير من نساء العرب و المسلمين الذين يسكنون في الكِبيك يفضِّلن العمل في الأُونْتاريو أو الإقامة فيها لأنّهن لا يتعرّضن،هناك، للمضايقات حول موضوع الحجاب و الهويّة و الانتماء...     

 

الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ

إنّ هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ المتطرّف ضدّ الأجانب الذي سلّح معنويًّا اليد التي قتلت نائل ذا السّبعة عشر عامًا يجد له أصداء واسعة بل تعاطفًا كبيرًا في الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ الذي تحتكره عصابة من رجال الأعمال و كبار الأغنياء.فإلى جانب طبقة السّياسيّين و طوائف من المثقّفين هناك رجال الأعمال و كبار الأغنياء في فرنسا الذين يتسابقون في احتكار مساحات كبرى من الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ و هم لا يُخفون ولاءهم الفكريّ و تبنِّيهم لأفكار التطرّف و الإقصاء و التّمييز العنصريّ السّارية في قطاعات واسعة في المجتمع الفرنسيّ و قد حوّلوا وسائلهم السّمعية البصريّة إلى منصّات إعلاميّة لخدمة الأفكار اليمينيّة المتطرّفة و عدائها العَلنيّ للأجانب و هويّتهم و ثقافتهم.

و يأتي في مقدّمة هؤلاء رجل الأعمال فنسنت بولوري Vincent bolloré  صاحب أكبر إمبراطورية إعلامية،في فرنسا، و صاحب شركات كبرى ذات نفوذ في اقتصاديّات دول إفريقيّة كالغابون و الكونغو و الكاميرون...و هو المالك للمحطّة التّلفزيونيّة Cnews ذات الصِّيت السّيء التي تعتبر مأوًى،و مَعْوًى، لكلّ أفكار التّطرف و التّمييز العنصريّ و الإقصاء و العَداء الذي يتعرّض له الأجانب في فرنسا.

و هذا الخطاب العنصريّ ضدّ الأجانب الذي تَنْفُخ فيه و تتولَّى كِبْرَه وسائل الإعلام المتحيّزة في هذا الفضاء الإعلاميّ المتطرّف وظيفتُه هو التَّلهية و لَفت الأنظار و التّغطية على المشاكل الحقيقيّة لعموم الفرنسيّين و هي الحقّ في الحياة الكريمة و التّوزيع العادل للمال و الثّروات كما اتّضح في مطالب انتفاضة السُّترات الصّفراء سنة 2018 و كذلك في المظاهرات الشّعبية الواسعة ضدّ قانون تأخير سنّ التّقاعد التي شهدها العام الجاري.

إنّ الخطاب السّياسي الفرنسيّ الرّسمي و الحزبيّ الحاقد و الإقصائيّ ضدّ الأجانب هو أحد أسباب أزمات فرنسا الدّاخلية.و إنّ فرنسا مريضة بهذا الخطاب السّياسي المتطرّف ضدّ فئات واسعة من الأجانب و هم،في الأصل، مواطنوها بالوثائق و بالانتماء و لكنّها تعاملهم معاملة الأهالي وَفْقًا لقانون الأهالي أو الأنْدِيجِينا indigénat الذي وضعته في الجزائر بعد احتلالها سنة 1830 و هو قانون يقضي بترتيب السّكان الأصليّين و جَعْلهم في وَضعٍ قانونيٍّ أَدْنَى يَحْرمهم من كلّ حقوقهم الطّبيعية ثمّ طبّقته،بعد ذلك، في كلّ مستعمراتها التي خرّبتها و لا تزال و سرقت خيراتها و ثرواتها و لا تزال.

 


لماذا بات العرب يهتمّون بكلّ ما يحدث في تركيا ؟

 


https://arabicpost.net/opinions/2023/06/22/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7/


يتابع العرب،باهتمام كبير، الشّؤون التّركية و مجموع الأحداث و التّطورات التي تشهدها تركيا منذ بداية هذه الألفيّة.و الانتخابات العامّة الأخيرة يوم 14 ماي 2023 تؤكّد حجم هذا الاهتمام و تضاعف درجته.و لكنّ السّؤال هو: لماذا هذا الاهتمام العربيّ الشّعبيّ و الرّسميّ بمجموع الأحداث و الشؤون التّركية ؟

إنّ هناك مجموعة من الأسباب،في ظنّي، هي التي جعلت هذا الاهتمام العربيّ بالشّؤون التّركية العامّة يتمدّد و يتواصل منذ عقدَين من الزّمن.و في الخطوط التّالية إضاءة و تحليل.

أمّا السّبب الأوّل فهو تاريخيّ و توضيح هذا الأمر أنّ العرب و الأتراك كلَيهما كان لهم دور في صناعة التّاريخ كبير و كان لهم،أيضًا، حضور مُهيمن و إنجازات حضاريّة كبرى: فالعرب دخلوا التّاريخ قبل الأتراك و صنعوا حضارة هي نسيجُ وَحْدها لا تزال أجيال الإنسانيّة المتعاقبة تستفيد من ثمارها.و لكن حين صَغُرت همّتُهم و انحصرت اهتماماتهم و اخْتفت مساحات المُثُل و الأفكار في حياتهم زالت قوّتُهم و تَسلّم المشعل منهم الأتراك الذين بسطوا نفوذهم في العالم العربيّ و في مناطق واسعة من العالم و أدَّوا دورهم التّاريخي الكبير في مسيرة الحضارة الاسلاميّة.

هذا اللّقاء التّاريخي بين العرب و الأتراك الذي دام أربعمائة سنة أو تزيد و الذي بدأ بدخول العثمانيّين المنطقة العربيّة،لأسباب مختلفة، منذ بدايات القرن الخامس عشر لا زالت آثاره شاخصة إلى اليوم و لا زالت معانيه محفورة في الضّمير الجمعيّ العربيّ.و لم تستطع سياسات التّتريك الظّالمة،في أواخر الدّولة العثمانيّة، التي كانت سبب القطيعة التّاريخية بين الشّعبَين العربيّ و التّركي و أحد أسباب انهيار الدّولة الإسلاميّة الكبرى التي تزعّمتها الآستانة آنذاك أو وصف الوجود العثمانيّ بالاحتلال للأرض العربيّة...كلّ أولئك ،إذنْ، لم يستطع أن يَكسر هذه الرّوابط التّاريخية القويّة بين الشّعبين الممتدّة في الزّمان و المكان.و كأنّ العرب حين يلتفتون جهة الأناضول و يُولُّون اهتمامهم شَطْر تركيا و يتابعون شؤونها و أحوالها و تفاصيلها إنّما يجدّدون عهدهم بحليف قديم و شريك معتبَر و جار قريب تربطهم به عوامل الحضارة و لقاء التّاريخ و علاقات الجغرافيا و أواصر الرّحم.

التّاريخ،إذنْ، و الجغرافيا و عوامل الحضارة و الانتماء هي أحد أسباب هذا الاهتمام العربيّ الشّعبيّ و الرّسميّ بمجموع الأحداث و الشؤون التّركية.

و لكنّ الذي ينبغي الإشارة إليه،في هذا المقام، أنّ هذه الرّوابط التّاريخية و القيم الثّقافية المشتركة و العلاقات و الأواصر التي كانت مُغَيَّبة،أو مدفونة، في تركيا منذ إلغاء الخلافة الإسلاميّة في 29 أكتوبر 1923 و تأسيس الجمهوريّة التّركية التي قامت على الكماليّة...هذه الرّوابط التّاريخية و الأبعاد الحضاريّة و القيم الثّقافية المشتركة التي تصنع،اليوم، هذا الاهتمام العربيّ و هذا التّواصل و الارتباط إنّما نفخ الرّوحَ فيها و بعثها من مرقدها فأحياها مجموعُ الظّروف السّياسية و الثقافية و النّفسية التي أعقبت نتائج الانتخابات النّيابية في نوفمبر 2002 التي شهدت فوز حزب العدالة و التّنمية و حصوله على 365 مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان و عددها 550 مقعدًا آنذاك.

  أمّا السّبب الثّاني لهذا الاهتمام العربيّ الواسع بتركيا و شؤونها فهو التّجربة التي يخوضها هذا البلد منذ بداية هذه الألفيّة إذْ هي تجربة فريدة استطاعت تحقيق القفزة النّوعيّة في قطاعات عديدة و تحقيق جملة من القرارات و المواقف و السّياسات في ظروف و أوضاع مشحونة بالإكراهات و المتناقضات.و العرب حين يتابعون الشّؤون التّركية و التّحوّلات النّوعية التي تحقّقت في هذا البلد و فصول النّهضة و البناء التي شملت قطاعات حيويّة و استراتيجيّة كالصّناعات العسكريّة و البُنَى التّحتية الواسعة و المشاريع الكبرى و مشاهد الانتخابات و السّلوك السّياسي و مجموع الأحداث و التّطورات فإنّهم يتساءلون: كيف استطاعت تركيا بلدُ الانقلابات العسكريّة التي دخلت دوّامة السّلبية و التّبعية و التّخلف و الفقر منذ أوّل انقلاب عسكريّ في 27 ماي 1960 – كيف استطاعت تجاوز أزمتها و الخروج من نَفَقها المُظلم ؟ و كيف استطاعت تركيا الجديدة أو تركيا ما بعد الحكم العسكريّ أنْ تحقّق،في عقدين من الزّمن، إقلاعًا ظاهرًا بإنجازاتها في الدّاخل و الخارج فتصبح دولة قويّة و محترمة و أكبر إنجاز حقّقته،على المستوى الخارجيّ، هو حضورها القويّ في مسرح العلاقات الدّولية و تأثيرها الظّاهر في الأحداث و السّياسات متوسّلةً بقوّتها النّاعمة و قوّتها الصّلبة و يُحْسب لها كلّ حساب على المستوى الإقليميّ و الدّوليّ ؟ و العرب حين يتساءلون هذا التّساؤل يستحضرون،في الوقت نفسه، وجود تركيا الفعّال في كثير من  المناطق و الأمصارو كذلك حضورها النّوعيّ في حوض البحر الأبيض المتوسّط شرقِه و غربه و في أروبّا و إفريقيا و آسيا و فاعليّتها في الأحداث الدّوليّة و في كثير من القضايا و النّزاعات و التّكتلات تُنافس الكبار و كلمتها مسموعة و هي تصنع لنفسها مكانًا محترمًا في نادي الدّول الكبرى ذات القوّة و الفاعليّة و التّأثير.

و كذلك يتساءل العرب و هم يتابعون المشهد التّركي بفصوله المختلفة و مظاهر القوّة البارزة فيه: كيف استطاع الأتراك،و هم أحفاد السّلاطين الذين حكموا أجزاء كبيرة من العالم، أنْ يَنهلوا من ثقافتهم و يَتَشرَّبوا بتُراثهم و أنْ  ينجحوا في الاستمداد من مجموع القيم التي قامت عليها الأمبراطوريّة العثمانيّة كالقوّة و الصّرامة و السّيادة و النِّدّية و إثبات الذّات و تحقيق الوجود و استقلاليّة القرار السّياسي و رفض التّبعية و الإملاءات و الاعتزاز بالهويّة و الانتماء.

و كأنّ العرب الذين يئنّون تحت أنظمة الاستبداد المترهِّل الذي قتل فيهم إنسانيّتهم و دفن مواهبهم و عطّل طاقاتهم و صيّرهم أرقامًا متشابهة – كأنّ العرب بهذا التّساؤل و هذه الالتفاتة و هذا الاستحضار إنّما يجدون في التّجربة التّركية مثالاً ممكنٌ اتّباعُه أو الاستفادة منه و متنفَّسًا لأوضاعهم الصّعبة أو مَخرجًا مأمولاً لظروفهم البائسة و نموذجًا قد يُحْتذَى به يتطلّعون إليه و يُؤَمِّلون قيامه في أوطانهم.

و لكن..هل يمكن للعرب أنْ يستفيدوا من التّجربة التركية ؟ و ما هي مظاهر هذه الاستفادة و حدودها ؟ أسئلة كبيرة و جادّة من هذا القَبيل موضوعة أمام صنّاع القرار و ذَوي النّباهة و الفكر و كلّ المهتمّين بإصلاح الأوضاع العربيّة القاتمة التي بلغت مستويات لا تُضاهَى من التّخلف و الانكسار و البؤس و السّلبية و الإفلاس.

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الجمعة، 26 أغسطس 2022

سيّد قطب

سيّد قطب ( 09 أكتوبر 1906 – 29 أوت 1966 )

مفكّر و أديب مصريّ له إنتاج كبير في قضايا الفنّ و الأدب و السّياسة و الفكر.تتميّز كتاباته بالقوّة و الأصالة و العمق.و من أكبر أعماله تفسيره ( في ظلال القرآن ) الذي ألّفه في السّجن.حُكم عليه بالإعدام لمواقفه السّياسية ضدّ نظام جمال عبد النّاصر (1918 – 1970).

و إذا كان ( الظّلم من شِيَم النّفوس...)،كما يقول أبو الطّيب المتنبّي ،فقد كان حظّ سيّد قطب حظًّا موفورًا من هذا الظّلم إذْ ظُلِم مرّتَين اثنتَين حين ظلمه صنفان من النّاس: صِنفٌ أحبّه حبًّا كبيرًا فأخرجه هذا الحبّ عن حدود الاعتدال و المعقوليّة و الاتّزان.و صِنفٌ كرهه كرهًا كبيرًا فنسب إليه كلّ المصائب و المثالب و أنواع العنف و الغلوّ و الإرهاب...

إنّ هذا الموقف المتطرّف من سيّد قطب ليس بسلوك غريب لأنّنا نحن العربَ مَفتونين بالأضداد و مَهْووسين بالتّطرف و المغالاة في العواطف و المواقف و يَغيب عن وَعْينا،دائمًا أو غالبًا، إيجادُ الميزان الصّحيح في المواقف المختلفة أو تحقيق توازن الميول في الآراء المتباينة و المصالح المتداخلة.و لا نجد النَّشْوة كلّها و العظمة جُلَّها إلاّ في احتضان المغالاة و اتّخاذها وسيلة و غاية بل منهجًا و تَديُّنًا أحيانًا! و هذا الموقف من سيّد قطب « طبيعيّ » ،أيضًا، لأنّ الحبّ كالكُره كليهما قد يُعْمي و يُصِمّ و قد يقود صاحبَه إلى مواقف و مآلات تحتاج إلى استدراك و تصحيح.

إنّ سيّد قطب،رحمه الله، من الشّخصيات الكبيرة المتميّزة ذات الإبداع و العطاء و ذات السّياحات في العوالم و الأكوان.و إنّ التّعامل مع مثل هذه الشّخصيات و الموقف منها و ابتلاء تُراثها لا يكون إلاّ بقيام أمرَين اثنَين أراهما أساسيَّين: أوّل الأمرَين هو تحقيق الاقتراب منها بشكل من الأشكال بأنْ تعيش معاناتها أو أنْ يُصيبك شيء من هذه المعاناة لأنّ سيّد قطب روح مُشتعل.و هذا الرّوح المُشتعل لا يَقترب من فَهمه و لا يَدنو من عالمه و لا يفوز بتذوّق معانيه و استيعاب أفكاره و الدّوران في فَلَكه إلاّ من أُوتيَ رُوحًا شقيقًا أو رُوحًا أصابه شَيءٌ من هذا الاشتعال أو كان قريبًا منه أو يكاد و إلاّ فسيكون كالمُصاب بعَمَى الألوان لا يَهتدي و لا يَستَبين.

الأمر الثاني المطلوب حين التّعامل مع هذه الشّخصيات و الموقف منها يقتضي تحكيم مبدأ واحد لا شريك له و إقامة ميزان واحد لا غير و هو: التّقدير لا التّقديس أيْ تقدير الشّخصيات الإنسانيّة لا تقديسها.و التّقدير يقتضي أنْ نتعامل مع الشّخصية الإنسانيّة التي هي محلّ الدّراسة و النّقد   أو الموازنة و العَرْض على أنّها شخصيّة إنسانيّة خالصة،في المقام الأوّل، لها ما لها و عليها ما عليها ذاكرين ضعفها و قوّتها و مُبْرزين تدفّقها و نُضَوبها و واقفين عند إضافاتها النّوعية و إخفاقاتها البَيِّنة لأنه ليس أحدٌ من النّاس إلاّ يُؤخَذ من قوله و يُتْرك إلاّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم...أمّا التّقديس فهو خروج بهذه الشّخصية الإنسانيّة عن وَضعها الإنسانيّ الأوّل الذي يقتضي النّقص و القصور.و إنّ سيّد قطب،رحمه الله، شخصيّة إنسانيّة يَسْري عليها ما يَسْري على جُموع الأناسيّ من أوصاف النّقص و القصور و يُصيبها ما يُصيب الآدميِّين من الخطأ و النّسيان و العجز و الافتقار.   

و إذا عُدْنا إلى الكُتّاب و المُبدعين الكبار وأساطين العلم و المعرفة،في الحضارة الإسلاميّة، لا نجدهم يخرجون عن تحكيم هذا الميزان في المواقف و العواطف و إصدار الأحكام.و هذا الميزان الذي يتناول الشّخصية الإنسانيّة بكُلِّيتها: بفَضْلها و نَقْصها و قوّتها و ضعفها و لا يأخذ الأمور عِضِين و لا يتناول هذه الشّخصيات الإنسانيّة أجزاء و تقاسيم هو الذي نجد له أصداء و أسماء في علم كبير في الحضارة الإسلاميّة هو علم الجَرح و التّعديل الذي يدلّ بمَبناه و معناه على أهمّيته و عظمته و تميّزه و سَبْقه.

هذا هو الميزان القويّ الذي كان سائدًا في البيئات العلميّة المختلفة إبّان قوّة الحضارة الإسلاميّة و إشعاعها.و لكنّ الذين جاءوا من بَعدُ تنكَّبوا قليلاً أو كثيرًا عن هذا الميزان فاختلطت عليهم الأمور كما تختلط الألوان على المُصاب بعَمَى الألوان.

بعد هذه التّقدمة نصل إلى إثبات موقف،أظنُّه صوابًا، خلاصتُه أنّ سيّد قطب مَعْلَم من معالم الثّقافة العربيّة و الإسلاميّة الحديثة و عَلَمٌ من أعْلامها الكبار و قد أغنى المكتبة العربيّة بسَيل كبير من الإنتاج ذي القوّة و العمق و الأصالة و السَّبق.و إبداعه الغزير في الفنّ و النّقد و الأدب و دراساته الإسلاميّة و نظريّته في التّصوير الفنّي في القرآن و ( ظِلالُه ) و ( عدالتُه ) و  ( خَصائصُه ) و ( معالمُه ) و إنتاجه الكبير في السّياسة و الفكر و إضافاتُه النّوعية في نقد الفلسفات و الإيديولوجيّات و تحليلها و تفكيكها...كلّ أولئك هو إبداعٌ نَسِيجُ وَحْدِه و هو جدير بالنّشر و القراءة و الاهتمام و هو حَقيق،أيضًا، بالنّقد و التّصويب أو التّصحيح و الاستدراك...

-----   -----   -----   -----   -----

مقتطفات من كتاب ( أفراح الرّوح ) و هو،في الأصل، مجموعة خواطر بعثها سيّد قطب إلى أخته أمينة:

( حين نعتزل الناس لأنّنا نُحسّ أنّنا أَطْهَر منهم روحًا أو أَطْيَب منهم قلبًا أو أَرْحَب منهم نفسًا أو أَذكَى منهم عقلاً لا نكون قد صَنعنا شيئًا كبيرًا...لقد اخْتَرنا لأنفسنا أَيْسر السُّبل و أقلَّها مؤونة.إنّ العَظَمة الحقيقيّة أنْ نُخالط هؤلاء النّاس مُشبَّعين بروح السّماحة و العَطف على ضُعفهم و نَقصهم و خَطَئهم و رُوح الرَّغبة الحقيقيّة في تَثقيفهم و تطهيرهم و رَفعهم إلى مُستوانا بقَدر ما نستطيع.و ليس معنى هذا أنْ نتخلَّى عن آفاقنا العُليا ومُثُلنا السّامية أو أنْ نتملَّق هؤلاء الناس ونُثْني على رذائلهم أو أنْ نُشْعِرَهم أنّنا أَعْلى منهم أفُقًا.إنّ التّوفيق بين هذه المتناقضات وسَعَة الصّدر لِما يتطلّبه هذا التّوفيق من جُهد هو العظمة الحقيقيّة ).

( لا شَيْءَ في هذه الحياة يَعْدِل ذلك الفرحَ الرُّوحي الشَّفيف الذي نَجده عندما نستطيع أنْ نُدخِل العَزاء أو الرِّضَى و الثّقة أو الأمَل أو الفرح إلى نُفوس الآخرين ).

( عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة: تبدأ من حيث بَدأنا نَعِي و تنتهي بانتهاء عُمرنا المحدود.أمّا عندما نعيش لغيرنا،أيْ عندما نعيش لفكرة فإنّ الحياة تبدو طويلة عميقة: تبدأ من حيث بدأت الإنسانيّة وتمتدّ بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.إنّنا نربح أضعاف عمرنا الفرديّ في هذه الحالة: نربحها حقيقة لا وَهْمًا.فتصوُّر الحياة على هذا النَّحو يُضاعف شعورَنا بأيّامنا وساعاتنا ولحظاتنا...و ليست الحياة بِعَدّ السّنين و لكنها بعِداد المشاعر...لأنّ الحياة ليست شيئًا آخرَ غَيَر شُعور الإنسان بالحياة.جَرِّدْ أيَّ إنسانٍ مِنَ الشّعور بحياته تُجَرِّدْه من الحياة ذاتها في معناها الحقيقيّ.و مَتَى أحسَّ الإنسان شُعورًا مضاعَفًا بحياته فَقَد عاش حياةً مضاعفةً فعلاً ).

( عندما نَلمس الجانبَ الطّيّب في نفوس النّاس نجد أنّ هناك خيرًا كثيرًا قد لا تراه العيون أوّل وَهْلة.لقد جَرَّبتُ ذلك..جرّبتُه مع الكثيرين حتى الذين يبدو في أوّل الأمر أنّهم شَرِّيرون أو فقراء الشّعور.شَيءٌ من العطف على أخطائهم و حماقاتهم.شَيءٌ من الوُدّ الحقيقيّ لهم.شَيءٌ من العناية غير المتصنَّعة باهتماماتهم وهمومهم...ثم ينكشف لك النَّبع الخَيِّر في نفوسهم حين يمنحونك حُبَّهم ومودّتهم وثقتهم في مقابل القليل الذي أعطيتهم إيّاه من نفسك متى أعطيتهم إيّاه في صدق وصفاء وإخلاص.إنّ الشّر ليس عميقًا في النّفس الإنسانيّة إلى الحدّ الذي نتصوّره أحيانًا.إنّه في تلك القشرة الصّلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء.فإذا أَمِنوا تَكشَّفت تلك القشرة الصّلبة عن ثمرة حلوة شهيّة...).

(...لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تَنْبت في ذهن بارد لا في قلب مُشِعّ.آمِنْ أنتَ أوّلاً بفكرتك.آمِن بها إلى حَدّ الاعتقاد الحارّ.عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون.و إلاّ فستبقَى مجرّد صياغة لفظيّة خالية من الرّوح و الحياة.لا حياةَ لفكرة لم تتقمَّص رُوح إنسان و لم تصبح كائنًا حيًّا دَبَّ على وجه الأرض في صورة بشر.كلُّ فكرة عاشت قد اقْتاتت قلبَ إنسان.أمّا الأفكار التي لم تَطْعَمْ هذا الغذاء المُقدَّس فقد وُلدَتْ ميِّتة ولم تَدفع بالبشريّة شبرًا واحدًا إلى الأمام ).

( لَمْ أَعُد أَفْزَع من المَوت حتّى لو جاء اللَّحظة.لقد عَملتُ بقَدْر ما كنتُ مُستطيعًا أنْ أَعمل.هناك أشياء كثيرة أودُّ أنْ أعملها لو مُدَّ لي في الحياة و لكنَّ الحَسرة لَن تأكلَ قلبي إذا لمْ أَسْتطعْ.إنّ آخرين سَوف يَقومون بها.إنّها لنْ تموت إذا كانت صالحةً للبقاء.فأنا مُطمئنٌّ إلى أنّ العناية التي تَلْحظُ هذا الوجود لن تَدَع فكرة صالحة تمُوت ).


الخميس، 11 أغسطس 2022

السّفر قطعة من العذاب ؟


السّفر :هل هو،حقيقة، قطعة من العذاب ؟ و إذا كان الحال كذلك فما تجلية هذا الأمر ؟

النّصوص الدّينية الواردة في موضوع السفر قسمان: أمّا القسم الأول فمحكوم بصحّته و من هذا القَبيل ما رواه البخاري و مسلم: ( السّفر قطعة من العذاب يَمنع أحدكم طعامه و شرابه و نومه. فإذا قَضى نهمته فلْيُعَجِّل إلى أهله ).

أمّا القسم الثاني من هذه الأحاديث فهو محلّ الرأي و الاختلاف و من هذا النوع: ( سافروا تصحوا و تغنموا ) و ( سافروا تصحوا و تسلموا ) و ( سافروا تصحوا و ترزقوا )...و في هذا القسم الثاني قد وردت أحاديث أخرى،بصيغ مختلفة، تربط بين السفر و الصوم و الغزو لتحقيق الصحة و الغنيمة والسلامة و الرزق. هذا القسم الثاني من الأحاديث،بصيغها المتباينة، اختلف في شأنها علماء الحديث و المحققون.و الظاهر أن سبب اختلافهم هو الطرق المختلفة التي وردت بها هذه الأحاديث و هي التي جعلتهم يحكمون عليها بأحكام تنتقل من الضعف و الوضع إلى الصحة و التحسين.و يمكن العودة إلى هذا الخلاف العلمي في مظانّه و أسفاره لأنه لا يهمنا في هذا المقام.و لكن بعيدا عن ساحة هذا الخلاف العلمي و تفصيلاته فإن هذا القسم من أحاديث السفر،على فرض ضعفه، فإن معناه صحيح.و بيان هذا الأمر كله مضافا إليه بيان أن السفر قطعة من العذاب كل أولئك تتكفل به الخطوط التالية.

إنّ وصف السّفر بأنه ( قطعة من العذاب…) في الحديث الصحيح ليس وصفًا على الحقيقة و إنما هو وصف على المجاز و بيان للحال الناشئة من السفر و ما يلقاه المسافر من فقد و حرمان و مشقة وعنت و منغصات.و توضيح هذا الأمر أن المسافر،حين يكون في سفره ،سيخرج من كل ما كان قد عهده في حاله قبل السفر حين كان متحكما بقدر كبير في تنظيم أوقات طعامه و شرابه و نومه و سائر وظائفه الحيوية و عاداته…و يكون حينئذ،أي أثناء سفره ،في وضع مختلف تماما عن وضعه الأول أو وضعه الطبيعي فيفقد بعضا،أو كلا، مما كان متحكما فيه أو كان قد ألفه و تعوده في حال الإقامة في أهله و بين سربه. و قد قال الإمام النّووي في شرحه لهذا الحديث: ( معناه: يمنعه كمالها ولذيذها لِمَا فيه من المشقَّة والتعب ومقاساة الحر والبرد و السُّرَى و الخوف و مفارقة الأهل و الأصحاب وخشونة العيش ).

إنّ وصف السفر بأنه ( قطعة من العذاب…) في الحديث الصحيح إنما هو وصف على المجاز و ليس وصفا على الحقيقة و ليس فيه،البتة ، جرح لماهية السفر أو انتقاص من أهميته و نفعه أو ازدراء لفاعله.

و لعلّ سائلا يسأل: كيف يمكن التوفيق بين معنى حديث ( السفر قطعة من العذاب…) و معاني الأحاديث الأخرى،و قد تقدّم بعضها، التي تجعل الصّحة و الغنيمة و السّلامة و الرّزق متحقَّقة في السفر ؟ الجواب سهل يسير و قد أجاب عنه بعضهم بالقول بأنه لا تعارض بين الحديثين الشريفين لأنه لا يلزم من وجود الصحة و الغنيمة و الرزق في السفر لما فيه من الحركة و التنقل والتجوال أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة و المنغصات و افتقاد للمألوف من الطعام و الشراب و النوم و سائر الأحوال و العادات.ويكون السفر بهذا الإيضاح و التفصيل شبيها بالدواء المر الذي يهب صاحبه الصحة و السلامة و العافية.

السفر،إذن، هو قطعة من العذاب مجازا و ليس حقيقة،بالمعاني التي سبق بيانها، و هو متعدد النفع كثير الفوائد.و قد لخص بعضها الإمام الشافعي في أبياته المشهورة:

تغرب عن الأوطان في طلب العُلا *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

إزالة هم و اكتساب معيشة *** و علم و آداب و صحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار غمٌّ و كربة *** و قطع الفيافي و ارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من حياته *** بدار هوان بين واش وحاسد.

و قد توسع أبو منصور الثعالبي،أيضا، في بيان منافع السفر في كتابه: ( اللطائف و الظرائف ) فقال: (...السفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه ونظامه لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعض.و من فضله أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار و محاسن الآثار ما يزيده علما و يفيده فهما بقدرة الله وحكمته و يدعوه إلى شكر نعمته و يسمع العجائب و يكسب التجارب و يفتح المذاهب و يجلب المكاسب و يشد الأبدان و ينشط الكسلان و يُسلي الأحزان و يطرد الأسقام و يُشهِّي الطعام و يحط سَوْرة الكبر و يبعث على طلب الذكر ).

و يمكن لي أن أضيف منافع أخرى،قبل مغادرة هذا المقام، هي صنوان لما تقدم أو تكملة لما مضى خلاصتها أن السفر هو مناسبة للخروج من المنطقة الآمنة Confort Zone التي هي أفكارنا القَبْليّة و تصوّراتنا الأوّلية التي نأوي إليها و نقوم بترديدها و المحافظة عليها دون التّفكير في تغييرها. و هذه المنطقة هي منطقة الرّاحة و الأمان التي نجد فيه راحتنا النّفسية و الجسديّة بإشباع كلّ لذّاتنا و الاستجابة لكلّ دوافعنا و هي المنطقة التي تُشْعرنا بالثّقة و السّيطرة و تملأنا باللّذة و السعادة و الرّضا لأنّها منطقة عاداتنا اليوميّة الحبيبة إلى أنفسنا التي لا تتغيّر و تصوّراتنا القَبْليّة التي لا تتبدّل و هي،كذلك، المنطقة التي لا تُكلّفنا الجهد الكبير و لا تفرض علينا المعاناة الكُبرى.

و السّفر ،لكونه قطعة من العذاب، حين يخرجنا من منطقتنا الآمنة و يكسر سلسلة العادة في حياتنا و يقطع لذّة المَألوف في أوقاتنا و ينتشلنا من منطقة الوضع الحالي Status quo التي تمنعنا من التّقدم و التّطور و التّجديد و تمنعنا تنمية طاقاتنا و مواهبنا…السّفر حين يصنع ذلك و أكثر فإنه يضيف إلى أعمارنا أعمارا أخرى و إلى تجاربنا تجارب كبرى و إلى عواطفنا و أرواحنا غناء و ثراء و كميات و مساحات و ينقلنا من قفص واقعنا الضيق المحدود و سجن يومياتنا الصغيرة المتعبة إلى الواقع الإنساني الكبير و فضاء الإنسانيّة الأكبر.

و السّفر هو وسيلة من وسائل اكتشاف الذات و الوقوف على نقصها وعيوبها و مخاوفها و هواجسها و شكوكها و ظنونها فيهبنا وعيا جديدا بذاتنا و معرفة حقيقية بدخيلتنا و خفايانا.و هذا الأمر كله ما كان ليتحقق لو كنا في حال الإقامة و البُلَهْنيَّة و السكون.

و من بركات السّفر ،كذلك،أنه يمنحنا مناسبة اكتشاف بلدان أخرى و أقاليم أخرى و ثقافات أخرى و أفكار و لغات و عادات و تقاليد و أذواق و ألوان و يضع،أمامنا، هذه الصورة الجميلة للعالم القائم على التنوع و الاختلاف.و كل ذلك هو إضافة نوعية إلى رصيدنا الإنسانيّ و توسعة لمداركنا و إثراء لمكتسباتنا الروحية و العلمية و الثقافية.

و من حسنات السّفر ،أيضًا، أنه يسهل العلاقة مع الآخر و يحقق التواصل مع كل من حولك من الناس. فقد تبدأ السفر وحيدا و لكنك سرعان ما تكتشف أنك لست وحدك و أنك محاط بأناس كثيرين في أي مكان تقصده: تتعرّف على أناس هنا و تربط علاقات مع آخرين هناك و تتعاطف مع جموع هنالك و تتبادل التحية مع هؤلاء و تتقاسم الإنسانية مع أولئك...و السّفر حين يربطك هذا الربط الجميل و المميز بالكون و العالم و الطبيعة و الأحياء فإنه يملأك،في الوقت نفسه، بعواطف قويّة و خواطر سَنيّة و يشحنك بروح جديد و إقبال قويّ و عزم ظاهر و تفاؤل كبير.


الحوار: الثلاثاء: 2 أوت 2022 / العدد: 4673

  

الصّيفَ ضيَّعتِ اللَّبن


الصّيف موسم ثقيل على النّفس لحرارته و قِصر لَيله و طول نهاره.و لا تتأذَّى السّاعة البيولوجيّة في مَوسم كما تتأذَّى في فصل الصّيف لأنّ غالبيّة النّاس لا يَقدرون على ضَبط نظام حياتهم،في هذا الموسم، تَبَعًا لما كان عليه في ما مضَى من المواسم و الشّهور. 

و لكنّ الصّيف،بعد هذا أو رَغم هذا، له معنًى خاصّ عند معظم الناس و مكانته لا تَحظَى بها المواسم الأخرى لأنه أشبه بالمحطّة الأخيرة في قطار الحياة السّنويّ التي يتطلّع إليها كلّ الرّكاب و يَستعجلون أوانها لينزلوا من هذا القطار الذي رجّهم رجًّا و أرهقهم رَهقًا و أتعبهم و أنْهك قُواهم و ضَغَط أعصابهم و أَثْلم أبدانهم و حمّلهم،شهورًا طوالاً، ما لا يُطيقون...يَستعجلون أوانَ الصّيف،إذنْ، و يَهَشّون لقُربه لينزلوا من هذا القطار و يترجّلوا قليلاً و يتخلّصوا من بعض الأعباء و يتخفّفوا من بعض التّكاليف...

الصّيف،بهذا المعنى، حبيب إلى النّفس لذيذ إلى القلب لأنه موسم الدَّعة و السّكون و الرّاحة و الاستجمام و التّنقل و التّرحال و الغَفلة و التّخفف و الفرحة و الانطلاق...تذوق النّفس فيه راحتها فتَستعيد اتِّزانها و تَستدرك ما فاتها.و لكنّ الصّيف،بسبب طبيعته الخاصّة، قد يَجني على صاحبه فيكون فصل الخسارة و الفَقد و الحَسرة و الجَدب.فَلْيَحرص العاقل على أنْ لا يَكون حاله،في هذا الفصل، شبيهًا بحال  دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة التي ضَيّعتْ في الصَّيف اللّبن.


الحوار: 28 جويلية 2022 / العدد: 4670


اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/