الاثنين، 3 يوليو 2023

كيف فجّر خطاب الكراهيّة الفرنسيّ الاحتجاجات الشّعبية ؟

 


https://arabicpost.net/opinions/2023/07/03/%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d8%ac%d8%a7%d8%ac%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d8%a7-2/


تعيش فرنسا منذ 27 جوان الماضي على وَقْع احتجاجات شعبيّة غاضبة واسعة تتصدّرها مشاهد الحرائق و الإتلاف و السّلب و النّهب بعد حادثة قتل الفتى نائل ( 17 سنة ) ذي الأصل الجزائريّ من طرف الشّرطة في نقطة تفتيش.و بعيدًا عن متابعة تفاصيل هذه الاحتجاجات و حجمها و توقيتها و أماكنها و نتائجها يتعيّن الوقوف عند مَكْمن الدّاء و تعيين الأسباب الأولى لهذه الانزلاقات الخطيرة،في فرنسا، التي تبدأ بمواقف عدائيّة و إقصائيّة ضدّ الأجانب لتصل إلى حدّ إباحة القتل و محاولة تبريره فيصبح،في هذه الحال، الفتى القتيل هو المتَّهَم و هو الجاني.و إنّ الوقوف عند مَكْمن الدّاء يُمكِّننا أو يُقرّبنا من فهم دوافع هذا النّوع من الاحتجاجات التي تتكرّر،في فرنسا،و تتصاعد حدّتُها في كلّ مرحلة و حين.

 

أزمة الخطاب السّياسي الفرنسي

ليس من المبالغة و الشّطط القول بأنّ المسؤول الأوّل عن الأحداث الجارية،في فرنسا، و التي أَعْقبت القتل المتعمّد لنائل من طرف الشّرطة هو الخطاب السّياسي الفرنسيّ الرّسمي و الحزبيّ الحاقد و الإقصائيّ ضدّ الأجانب الذي يتوسّع و يتنامى منذ عقود.

و هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ الإقصائي المتطرّف الذي سلّح معنويًّا اليد التي قتلت نائل لا نكاد تجد له نظيرًا أو منافسًا في عموم أروبّا.و حتّى في دول الشّمال كالسّويد أو الدّانمارك التي تستعلن فيها مظاهر العداء للعرب و المسلمين لا وجود فيها لخطاب رسميّ منظَّم حاقد و إقصائي ضدّ الأجانب و إنّما هي مواقف و مظاهر يقودها أشخاص و هيئات لا تَحظَى بالقبول و الاهتمام في الغالب.

هناك،إذن، خصوصيّة فرنسيّة في الموقف من الأجانب و لا سيّما العرب و المسلمين.فهل هناك من تفسير لهذه الخصوصيّة ؟ و ما هي أسباب هذا السّلوك العدائيّ ؟

لعلّ التّاريخ و أحداثه قد يُسعفنا في تقديم رؤيا مناسبة لفهم هذه الخصوصيّة و اكْتناهها أو الاقتراب منها على الأقلّ.و على هذا الأساس يمكن القول تفسيرًا لهذه الخصوصيّة الفرنسيّة إنّ الموقف من الأجانب لدى الطّبقة السّياسية الفرنسيّة،في فرنسا، و لدى مجموعة من المثقّفين إنّما هو من مخلَّفات أو عقابيل الحروب الصّليبيّة.و قد استَعْلنت هذه أو العقابيل في حملات الاستعمار الفرنسيّ المختلفة و أشار إليها الجنرال الفرنسيّ هنري غوريو (1946-1867) حين دخل دمشق سنة 1920 و وقف عند ضريح صلاح الدّين الأيّوبي قائلاً: ( الآن عُدنا يا صلاح الدّين ).

إنّ اليمين التّقليدي و اليمين المتطرّف،في فرنسا، مضافًا إليهما طوائف من المثقّفين و السّياسيّين الفرنسيّين المَدعُومين إعلاميًّا-  هؤلاء جميعًا لا يزالون يعيشون في الماضي و أنّ فرنسا بلد حقوق الإنسان و بلد الحرّيات و التّنوير،كما تحبّ أن تُوصَف، مريضة بدائها القديم و بعُقدتها الصّليبيّة و عقدتها الاستعماريّة و أنّها لم تستطع التّخلص تخلّصًا كافيًا شافيًا من فكرها الصّليبي و موروثها الاستعماريّ الذي يصنع،اليوم، مواقفها العدائيّة و الإقصائيّة من الأجانب و لا سيّما العرب           و المسلمين و هم،في الأصل، مواطنون فرنسيّون.

و قد يجد هذا الإثبات مصداقيّته إذا ما علمنا أنّ الحروب الصّليبيّة الأولى (1099-1096) بدأت من فرنسا حين قام البابا أوربان 2 ( Urban 2 ) بعمليّات الحَشد و التّهييج في أريافها في 27 نوفمبر 1095.و من المفارقة و العُجاب أنّ فرنسا التي تتّخذ العلمانيّة دينًا و مذهبًا و تتبجّح بالعلمانيّة صباحَ مساء و تحارب المظاهر الدّينية و الثّقافية للأجانب باسم العلمانيّة تُصرّ على تأكيد هويّتها المسيحيّة في أعلى مستوى في السّلطة،في المناسبات الكبرى، و لا يَفُوتها الإشارة إلى الرّوابط القديمة بينها و بين ماضيها الكَنَسيّ.و مثال ذلك ما قاله الرّئيس الفرنسي السّابق جيسكار ديستان ( 1926 -2020 ) في خطابه حين استقباله البابا يوحنّا بولس الثّاني ( 1920-2005 )  في 30 ماي 1980 قائلاً: ( الشّعب الفرنسي يرحّب بكم في هذه البلاد التي تعتبر منذ زمن طويل الابنة الكبرى للكنيسة .(

إنّ هذه الالتفاتة إلى التّاريخ و محاولة استنطاقه قد تُعيننا على فهم ما يحدث في الفضاء السّياسي الفرنسي الذي تتنامى فيه ظاهرة العداء للأجانب و لثقافاتهم لأنّ العلمانيّة بمفهومها الأصليّ و قوانينها المختلفة التي كانت تستهدف إصلاح التّعليم،في فرنسا، و وضع حدّ لهيمنة الكنيسة على التّعليم الابتدائي في نهاية القرن التاسع عشر مضافًا إليها قانون 01 ديسمبر 1905 الذي قضى بتحقيق الفصل بين الكنيسة و الدّولة – هذه العلمانيّة ليس فيها البتَّةَ ما يفسّر ظاهرة العَداء و الإقصاء ضدّ الأجانب و سلوكات التّمييز العنصريّ التي هم ضحاياها.

إنّ هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ الإقصائي المتطرّف ضدّ الأجانب لا يوجد له نظير في عموم أروبّا كما سبقت الإشارة إليه.و لكنّ فرنسا استطاعت تصدير هذا الخطاب السّياسي المتطرّف إلى مناطق نفوذها و مستعمراتها القديمة.مثال ذلك ما يحدث في أكبر مقاطعتَين في كندا و هما الكِبيك و الأُونْتاريو: ففي الكِبيك الفرنكفونيّة،كما ذكر لي بعض العرب و المسلمين، تجد استنساخًا لهذا الخطاب الفرنسيّ الإقصائيّ المتطرّف ضدّ الأجانب و جدلاً محمومًا حول موضوع الهويّة   و الإسلام و الحجاب...أمّا في مقاطعة الأُونْتاريو الناطقة بالأنجليزيّة فلا وجود لهذا الخطاب و لا وجود لهذا الجدل المحموم.و كثير من نساء العرب و المسلمين الذين يسكنون في الكِبيك يفضِّلن العمل في الأُونْتاريو أو الإقامة فيها لأنّهن لا يتعرّضن،هناك، للمضايقات حول موضوع الحجاب و الهويّة و الانتماء...     

 

الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ

إنّ هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ المتطرّف ضدّ الأجانب الذي سلّح معنويًّا اليد التي قتلت نائل ذا السّبعة عشر عامًا يجد له أصداء واسعة بل تعاطفًا كبيرًا في الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ الذي تحتكره عصابة من رجال الأعمال و كبار الأغنياء.فإلى جانب طبقة السّياسيّين و طوائف من المثقّفين هناك رجال الأعمال و كبار الأغنياء في فرنسا الذين يتسابقون في احتكار مساحات كبرى من الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ و هم لا يُخفون ولاءهم الفكريّ و تبنِّيهم لأفكار التطرّف و الإقصاء و التّمييز العنصريّ السّارية في قطاعات واسعة في المجتمع الفرنسيّ و قد حوّلوا وسائلهم السّمعية البصريّة إلى منصّات إعلاميّة لخدمة الأفكار اليمينيّة المتطرّفة و عدائها العَلنيّ للأجانب و هويّتهم و ثقافتهم.

و يأتي في مقدّمة هؤلاء رجل الأعمال فنسنت بولوري Vincent bolloré  صاحب أكبر إمبراطورية إعلامية،في فرنسا، و صاحب شركات كبرى ذات نفوذ في اقتصاديّات دول إفريقيّة كالغابون و الكونغو و الكاميرون...و هو المالك للمحطّة التّلفزيونيّة Cnews ذات الصِّيت السّيء التي تعتبر مأوًى،و مَعْوًى، لكلّ أفكار التّطرف و التّمييز العنصريّ و الإقصاء و العَداء الذي يتعرّض له الأجانب في فرنسا.

و هذا الخطاب العنصريّ ضدّ الأجانب الذي تَنْفُخ فيه و تتولَّى كِبْرَه وسائل الإعلام المتحيّزة في هذا الفضاء الإعلاميّ المتطرّف وظيفتُه هو التَّلهية و لَفت الأنظار و التّغطية على المشاكل الحقيقيّة لعموم الفرنسيّين و هي الحقّ في الحياة الكريمة و التّوزيع العادل للمال و الثّروات كما اتّضح في مطالب انتفاضة السُّترات الصّفراء سنة 2018 و كذلك في المظاهرات الشّعبية الواسعة ضدّ قانون تأخير سنّ التّقاعد التي شهدها العام الجاري.

إنّ الخطاب السّياسي الفرنسيّ الرّسمي و الحزبيّ الحاقد و الإقصائيّ ضدّ الأجانب هو أحد أسباب أزمات فرنسا الدّاخلية.و إنّ فرنسا مريضة بهذا الخطاب السّياسي المتطرّف ضدّ فئات واسعة من الأجانب و هم،في الأصل، مواطنوها بالوثائق و بالانتماء و لكنّها تعاملهم معاملة الأهالي وَفْقًا لقانون الأهالي أو الأنْدِيجِينا indigénat الذي وضعته في الجزائر بعد احتلالها سنة 1830 و هو قانون يقضي بترتيب السّكان الأصليّين و جَعْلهم في وَضعٍ قانونيٍّ أَدْنَى يَحْرمهم من كلّ حقوقهم الطّبيعية ثمّ طبّقته،بعد ذلك، في كلّ مستعمراتها التي خرّبتها و لا تزال و سرقت خيراتها و ثرواتها و لا تزال.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/