تمتاز مدينة اسطنبول،بحسب
موقعها الجغرافي، بصفتين اثنتين: انتماؤها إلى قارّة أروبّا و انتماؤها إلى قارّة آسيا.و
هذا الانتماء المزدوج الذي تحظى به هذه المدينة دون سائر مدن العالم مضافًا إليه
عامل الثقافة و التاريخ إذْ كانت
مركزًا لحضارات مختلفة...كلّ أولئك و ما ينشأ عنه من آثار دائمة و تأثير متواصل و امتزاج للأفكار و القيم و تزاوج للألوان و
الأذواق هو الذي جعل اسطنبول مدينة
هي نسيجُ وَحدها و أهّلها لأنْ تصبح
قبلة السّائحين من كلّ العالم و وجهة الكتّاب و الباحثين و مقصد أُناس كثيرين
يطلبون فيها سُبل العيش و قضاء المآرب و تحقيق الرّغبات.
و كلّ الذين يزورون اسطنبول
و يتقلّبون في أحضانها يُجمعون أنّ لهذه المدينة
سحرًا خفيًّا لا يُقاوَم يَشعرون به يَملكهم فيَستنيمون له و لا يجدون منه خَلاصًا.
فمِن أين اكتسبت اسطنبول
هذا السّحر الذي ما انفكّ يلازمها و لا يَسلم منه زائرها ؟ و مِن أين اكتسبت هذه المدينة
جاذبيّتها التي ما فتِئ يستنيم لها نزيلها ؟
قد يقول قائل إنّ السّبب هو
موقعها الجغرافي الذي سبقت الإشارة إليه و انتماؤها إلى قارّتين اثنتَين و هو وصف
لا يشاركها فيه مدينة أخرى في العالم.و هذا الجواب،لا شكّ، قد تضمّن رأيًا صحيحًا
و لكنه يظلّ،في ظنّي، جوابًا ناقصًا إذا لم يَكُن مشفوعًا بتتمّة تزيده إضاءة و
تَجلوه.
و يَقوَى الاعتقاد،عندي، أنّ
هذا السّبب إنّما يَعود إلى تاريخ اسطنبول
العريق و ما تعاقب عليها من حضارات شتّى و أقوام مختلفين و ما نشأ عن هذا التّعاقب
و الاختلاف من نسيج و مزيج و تزاوج و
انصهار و مثاقفة و انبهار و ما خلّفه هذا و ذاك من أفكار و إيحاءات و قيم و ثقافات
و خاصّة ما علِق بها أو ما عَلقته من فترة الحكم العثمانيّ الطّويل و ما أصبح
لصيقًا بها و جزءًا من هويّتها منذ أن اتّخذها السّلاطين العثمانيّون عاصمة لهم
مدّة تزيد على أربعة قرون فبسطوا سيطرتهم و نفوذهم على مناطق كثيرة في أروبّا و
آسيا و العالم العربيّ.
و كان نتيجة هذا الحكم الذي
امتدّ قرونًا بأحداثه الكبرى و تقلّباته الجُلَّى أنْ أصبح العالم كلّه موجودًا في
اسطنبول
أيْ في الأستانة مركز الخلافة الإسلامية و مدينة السّلاطين الغالبين يتوافد عليها
صباحَ مساء و في كلّ لحظة و حين في السّراء و الضّراء و في أيّام السّلم و حين
الحرب أقوام من كلّ الأمصار و الأصقاع.
فالموقع الجغرافيّ
المتميّز،إذنْ، و العامل التّاريخي الذي يبدأ بمئات السّنين قبل الميلاد و يمتدّ
إلى الفترتَين البيزنطية و العثمانية و ما خلّفه هذا الحضور الطّويل من قِيم و
أفكار و إيحاءات و أسرار و رسوم و
بصمات و أذواق و ألوان و عواطف و أحاسيس و عِظم الآثار الشّاخصة و ضخامة الإنجازات
الماثلة...
كلّ أولئك،إذنْ، هو الذي جعل اسطنبول
مدينة مفتوحة على العالم تبسط يَديها،صباحَ مساء، تستقبل الوافدين إليها من كلّ
حَدب و صَوب فتحتضنهم فيُؤخذون بسحرها و تأثيرها.
و كلّ أولئك،أيضًا، قد يكون أحد
أسباب هذا السّحر الذي تتمتّع به اسطنبول
و قد يفسّر هذه الجاذبيّة التي تلازمها فيقع تحت تأثيرها كلّ زائر و لا يَفتأ
يذكرها كلّ مغادر.
و لعلّ هذه الجاذبيّة و ذلك السّحر
هو الذي سَكن نابليون فَمَلكه فأنطقه فقال: لو كان العالم كلّه دولة واحدة لكانت اسطنبول
عاصمتها.
و لولا عامل التّاريخ البعيد
الذي تتشابك فيه الألوان و الأذواق و تتعانق الثّقافات و الحضارات و تمتزج
الولاءات و الانتماءات و تذوب فيه الحدود و القيود و تختلط الهواجس و الإيحاءات و
ينتعش الزّمان و المكان...و لولا هذا
الحضور العثمانيّ الشّاخص ذو الإضافات النّوعيّة البارزة الذي صَبغ هذه المدينة
بصبغته و خلّدها بعظم المعالم و الإنجازات و جعلها مدينة مفتوحة على الكون و
العالم...
لولا هذا العامل
التّاريخي،إذنْ، و لولا ذلك الحضور الطّويل المهيمن ما كانت مدينة اسطنبول ذات الانتماءين
لتحظى بهذه العناية و الاهتمام و ما كانت لتفوز بهذه الجاذبيّة و السّحر.
إنّ اسطنبول مدينة عالميّة
تستحقّ عناء الزّيارة و تكاليف التّنقل للوقوف على معالمها الكبرى و آثارها
القائمة كحجر المليون The million stone الذي أُنشئ في القرن
الرّابع الميلادي و كان مكان الانطلاق لحساب المسافات لجميع الطّرق المؤدّية إلى
مدن الإمبراطورية البيزنطيّة و مسجد السّلطان أحمد الذي بُني ما بين عامي 1609-
1616 أو ما يعرف،عند الغربيّين بالمسجد
الأزرق و آيا صوفيا التي تقابله فتؤانسه و تتلقَّى،يوميًّا، صَداه و نَجواه و هي أشهر كنيسة في العهد البيزنطي و
أوّل جامع يصلّي فيه السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية سنة 1453
و قد حُوّلت إلى متحف منذ 1935
في عهد أتاتورك.
و كذلك يستحقّ الزّيارةَ و الطّواف
مسجد سليمان القانونيّ عاشر السلاطين العثمانيين الذي بناه أكبر المعماريّين
العثمانيّين في التاريخ الإسلامي و هو سنان باشا ما بين سنتي 1550-1557.
و يُماثله في الأهمّية و الشّأن
قصر توبكابي العظيم،المعروف أيضًا باسم الباب العالي، الذي بدأ بناؤه سنة 1459
و
سكنه خمسة و عشرون سلطانًا عثمانيًّا و
كان،قُرابة أربعة قرون ،مصدر القرار و مركز الحكم الذي تُصنع فيه سياسة
الإمبراطورية العثمانيّة و مقام الهَيبة و قبلة القاصدين.و قد أصبح،اليوم، متحفًا
تُعرض فيه آثار العثمانيّين و الآثار المقدّسة للنبيّ صلّى الله عليه و سلّم.
و كذلك تستهوي الزّائر جزرُ
الأمراء في بحر مرمرة و خاصّة المأهولة بالسّكان كجزيرة بويوكادا الهادئة التي
يقصدها غالبيّة السّائحين لتوفّرها على كلّ المرافق العامّة الضّروريّة و لخلوّها،كذلك،
من حركة السّيارات. و
لا تتمّ زيارة اسطنبول دون التّعريج على أسواقها و أحيائها التّاريخية كالسّوق
المصريّ للتّوابل و العطور التي كانت تأتي من الهند عبر الموانئ المصريّة.و قد بدأ
بناؤه سنة 1597
و استمرّ إلى غاية 1664
و البازار الكبير الذي بني في عهد محمد الفاتح و يشتمل على أكثر من 60
شارعًا و 400 دكّان
و مساجد.
أمّا حيّ أيّوب ففيه مَدفن
الصحابيّ الجليل أبو أيوب الأنصاري و مسجده و هو أوّل مسجد بناه العثمانيّون في
اسطنبول سنة 1458.و
قد أصبح الحيّ و كلّ ما حوله منطقة سياحيّة تمتلئ حركةً و تجارةً يقصدها أهل البلد
و الأجانب على السّواء.
أمّا ميدان تقسيم،و أصل
التّسمية يعود إلى شبكة قنوات المياه التي تتجمّع في هذا المكان و كانت تتولَّى
تقسيم أو توزيع المياه على أحياء المدينة، فلا تكتمل الزيارة دون الوصول إليه و
التّجول في شارع الاستقلال المتفرّع عنه و طوله بضعة كيلومترات تنتشر على جانبيه
المحلاّت التجارية المختلفة و يسلكه،يوميًّا، الآلاف من النّاس أتراكًا و سائحين.
و على العموم فالمدينة تزخر
بالشّواهد و الآثار و خاصّة ما يعود منها إلى فترة العثمانيّين: فآثارهم الشّامخة
ذات القوّة و المنعة قائمة شاخصة تصاحبك في كلّ خطوة و سَير و تصادفك عند كلّ
زاوية و شارع و تستوقفك في كلّ صعود
و منحدر.
إنّ الذي يَلفت الانتباه،في اسطنبول،
هو هذا الامتزاج الحاصل بين الأذواق و الألوان و الرّسوم و الشِّيات و الأهواء و الميولات و القيم و الأفكار و
الأساليب و الاتّجاهات و الرّوائح و العطور و الأطعمة و الأطباق...و كلّ أولئك يتخلّله صوت
الآذان النّديّ الذي يخترق الفضاء بين الحين و الحين فيضيف بُعدًا آخر و جمالاً
آخر إلى هذه المدينة السّاحرة التي تعرّضت لتأثيرات كبرى منذ ألفَي سنة أو تزيد.
و لكنّ الزّائر لاسطنبول،بعد
الامتزاج بمناخها و التّقلب في أحضانها و الاختلاط بناسها و سكّانها، يكتشف أنّ اسطنبول
ثقافة أخرى لها طعمها الخاصّ و لونها المتميّز و رؤيا للعالم مختلفة صنعتها تأثيرات
الماضي البعيد و صقلتها الأحداث الكبرى المتعاقبة على هذه المدينة التّاريخية إلى
يومنا هذا.
و
الحقّ أنّ سحر اسطنبول لا يشعر به الزّائر في نهاية الرّحلة أو في وسطها بل إنه لسحر
يتجدّد في كلّ يوم جديد و كأنه يتعاظم بين اللّحظة و تِلْوها فيتمكّن من زائرها فيستجيب
له و يرتاح.
إنّ اسطنبول هي المدينة ذات
الانتماءين و هي مدينة عالميّة تتميّز بالعراقة و التّنوع و هي بأوصافها جميعًا تستحقّ
عناء الزّيارة و تكاليف التّنقل.و هذه هي اسطنبول التي زرتها: ففي
أحضانها أحببتها و بعيدًا عنها أذكرها و في هذه السّطور أكتبها.