الخميس، 2 أكتوبر 2014

اسطنبول..



تمتاز مدينة اسطنبول،بحسب موقعها الجغرافي، بصفتين اثنتين: انتماؤها إلى قارّة أروبّا و انتماؤها إلى قارّة آسيا.و هذا الانتماء المزدوج الذي تحظى به هذه المدينة دون سائر مدن العالم مضافًا إليه عامل الثقافة و التاريخ إذْ كانت مركزًا لحضارات مختلفة...كلّ أولئك و ما ينشأ عنه من آثار دائمة و تأثير متواصل و امتزاج للأفكار و القيم و تزاوج للألوان و الأذواق هو الذي جعل اسطنبول مدينة هي نسيجُ وَحدها و أهّلها لأنْ تصبح قبلة السّائحين من كلّ العالم و وجهة الكتّاب و الباحثين و مقصد أُناس كثيرين يطلبون فيها سُبل العيش و قضاء المآرب و تحقيق الرّغبات.

و كلّ الذين يزورون اسطنبول و يتقلّبون في أحضانها يُجمعون أنّ لهذه المدينة سحرًا خفيًّا لا يُقاوَم يَشعرون به يَملكهم فيَستنيمون له و لا يجدون منه خَلاصًا.
فمِن أين اكتسبت اسطنبول هذا السّحر الذي ما انفكّ يلازمها و لا يَسلم منه زائرها ؟ و مِن أين اكتسبت هذه المدينة جاذبيّتها التي ما فتِئ يستنيم لها نزيلها ؟
قد يقول قائل إنّ السّبب هو موقعها الجغرافي الذي سبقت الإشارة إليه و انتماؤها إلى قارّتين اثنتَين و هو وصف لا يشاركها فيه مدينة أخرى في العالم.و هذا الجواب،لا شكّ، قد تضمّن رأيًا صحيحًا و لكنه يظلّ،في ظنّي، جوابًا ناقصًا إذا لم يَكُن مشفوعًا بتتمّة تزيده إضاءة و تَجلوه.

و يَقوَى الاعتقاد،عندي، أنّ هذا السّبب إنّما يَعود إلى تاريخ اسطنبول العريق و ما تعاقب عليها من حضارات شتّى و أقوام مختلفين و ما نشأ عن هذا التّعاقب و الاختلاف من نسيج و مزيج و تزاوج و انصهار و مثاقفة و انبهار و ما خلّفه هذا و ذاك من أفكار و إيحاءات و قيم و ثقافات و خاصّة ما علِق بها أو ما عَلقته من فترة الحكم العثمانيّ الطّويل و ما أصبح لصيقًا بها و جزءًا من هويّتها منذ أن اتّخذها السّلاطين العثمانيّون عاصمة لهم مدّة تزيد على أربعة قرون فبسطوا سيطرتهم و نفوذهم على مناطق كثيرة في أروبّا و آسيا و العالم العربيّ.
و كان نتيجة هذا الحكم الذي امتدّ قرونًا بأحداثه الكبرى و تقلّباته الجُلَّى أنْ أصبح العالم كلّه موجودًا في اسطنبول أيْ في الأستانة مركز الخلافة الإسلامية و مدينة السّلاطين الغالبين يتوافد عليها صباحَ مساء و في كلّ لحظة و حين في السّراء و الضّراء و في أيّام السّلم و حين الحرب أقوام من كلّ الأمصار و الأصقاع.

فالموقع الجغرافيّ المتميّز،إذنْ، و العامل التّاريخي الذي يبدأ بمئات السّنين قبل الميلاد و يمتدّ إلى الفترتَين البيزنطية و العثمانية و ما خلّفه هذا الحضور الطّويل من قِيم و أفكار و إيحاءات و أسرار و رسوم و بصمات و أذواق و ألوان و عواطف و أحاسيس و عِظم الآثار الشّاخصة و ضخامة الإنجازات الماثلة...
كلّ أولئك،إذنْ، هو الذي جعل اسطنبول مدينة مفتوحة على العالم تبسط يَديها،صباحَ مساء، تستقبل الوافدين إليها من كلّ حَدب و صَوب فتحتضنهم فيُؤخذون بسحرها و تأثيرها.
و كلّ أولئك،أيضًا، قد يكون أحد أسباب هذا السّحر الذي تتمتّع به اسطنبول و قد يفسّر هذه الجاذبيّة التي تلازمها فيقع تحت تأثيرها كلّ زائر و لا يَفتأ يذكرها كلّ مغادر.
و لعلّ هذه الجاذبيّة و ذلك السّحر هو الذي سَكن نابليون فَمَلكه فأنطقه فقال: لو كان العالم كلّه دولة واحدة لكانت اسطنبول عاصمتها.

و لولا عامل التّاريخ البعيد الذي تتشابك فيه الألوان و الأذواق و تتعانق الثّقافات و الحضارات و تمتزج الولاءات و الانتماءات و تذوب فيه الحدود و القيود و تختلط الهواجس و الإيحاءات و ينتعش الزّمان و المكان...و لولا هذا الحضور العثمانيّ الشّاخص ذو الإضافات النّوعيّة البارزة الذي صَبغ هذه المدينة بصبغته و خلّدها بعظم المعالم و الإنجازات و جعلها مدينة مفتوحة على الكون و العالم...
لولا هذا العامل التّاريخي،إذنْ، و لولا ذلك الحضور الطّويل المهيمن ما كانت مدينة اسطنبول ذات الانتماءين لتحظى بهذه العناية و الاهتمام و ما كانت لتفوز بهذه الجاذبيّة و السّحر.

إنّ اسطنبول مدينة عالميّة تستحقّ عناء الزّيارة و تكاليف التّنقل للوقوف على معالمها الكبرى و آثارها القائمة كحجر المليون The million stone الذي  أُنشئ في القرن الرّابع الميلادي و كان مكان الانطلاق لحساب المسافات لجميع الطّرق المؤدّية إلى مدن الإمبراطورية البيزنطيّة و مسجد السّلطان أحمد الذي بُني ما بين عامي 1609- 1616 أو ما يعرف،عند الغربيّين بالمسجد الأزرق و آيا صوفيا التي تقابله فتؤانسه و تتلقَّى،يوميًّا، صَداه و نَجواه و هي أشهر كنيسة في العهد البيزنطي و أوّل جامع يصلّي فيه السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية سنة 1453 و قد حُوّلت إلى متحف منذ 1935 في عهد أتاتورك.
و كذلك يستحقّ الزّيارةَ و الطّواف مسجد سليمان القانونيّ عاشر السلاطين العثمانيين الذي بناه أكبر المعماريّين العثمانيّين في التاريخ الإسلامي و هو سنان باشا ما بين سنتي 1550-1557.
و يُماثله في الأهمّية و الشّأن قصر توبكابي العظيم،المعروف أيضًا باسم الباب العالي، الذي بدأ بناؤه سنة 1459 و سكنه خمسة و عشرون سلطانًا عثمانيًّا و كان،قُرابة أربعة قرون ،مصدر القرار و مركز الحكم الذي تُصنع فيه سياسة الإمبراطورية العثمانيّة و مقام الهَيبة و قبلة القاصدين.و قد أصبح،اليوم، متحفًا تُعرض فيه آثار العثمانيّين و الآثار المقدّسة للنبيّ صلّى الله عليه و سلّم.

و كذلك تستهوي الزّائر جزرُ الأمراء في بحر مرمرة و خاصّة المأهولة بالسّكان كجزيرة بويوكادا الهادئة التي يقصدها غالبيّة السّائحين لتوفّرها على كلّ المرافق العامّة الضّروريّة و لخلوّها،كذلك، من حركة السّيارات.    و لا تتمّ زيارة اسطنبول دون التّعريج على أسواقها و أحيائها التّاريخية كالسّوق المصريّ للتّوابل و العطور التي كانت تأتي من الهند عبر الموانئ المصريّة.و قد بدأ بناؤه سنة 1597 و استمرّ إلى غاية 1664 و البازار الكبير الذي بني في عهد محمد الفاتح و يشتمل على أكثر من 60 شارعًا و 400 دكّان و مساجد.
أمّا حيّ أيّوب ففيه مَدفن الصحابيّ الجليل أبو أيوب الأنصاري و مسجده و هو أوّل مسجد بناه العثمانيّون في اسطنبول سنة 1458.و قد أصبح الحيّ و كلّ ما حوله منطقة سياحيّة تمتلئ حركةً و تجارةً يقصدها أهل البلد و الأجانب على السّواء.
أمّا ميدان تقسيم،و أصل التّسمية يعود إلى شبكة قنوات المياه التي تتجمّع في هذا المكان و كانت تتولَّى تقسيم أو توزيع المياه على أحياء المدينة، فلا تكتمل الزيارة دون الوصول إليه و التّجول في شارع الاستقلال المتفرّع عنه و طوله بضعة كيلومترات تنتشر على جانبيه المحلاّت التجارية المختلفة و يسلكه،يوميًّا، الآلاف من النّاس أتراكًا و سائحين.
و على العموم فالمدينة تزخر بالشّواهد و الآثار و خاصّة ما يعود منها إلى فترة العثمانيّين: فآثارهم الشّامخة ذات القوّة و المنعة قائمة شاخصة تصاحبك في كلّ خطوة و سَير و تصادفك عند كلّ زاوية و شارع       و تستوقفك في كلّ صعود و منحدر.
  
إنّ الذي يَلفت الانتباه،في اسطنبول، هو هذا الامتزاج الحاصل بين الأذواق و الألوان و الرّسوم و الشِّيات و الأهواء و الميولات و القيم و الأفكار و الأساليب و الاتّجاهات و الرّوائح و العطور و الأطعمة و الأطباق...و كلّ أولئك يتخلّله صوت الآذان النّديّ الذي يخترق الفضاء بين الحين و الحين فيضيف بُعدًا آخر و جمالاً آخر إلى هذه المدينة السّاحرة التي تعرّضت لتأثيرات كبرى منذ ألفَي سنة أو تزيد.

و لكنّ الزّائر لاسطنبول،بعد الامتزاج بمناخها و التّقلب في أحضانها و الاختلاط بناسها و سكّانها، يكتشف أنّ اسطنبول ثقافة أخرى لها طعمها الخاصّ و لونها المتميّز و رؤيا للعالم مختلفة صنعتها تأثيرات الماضي البعيد و صقلتها الأحداث الكبرى المتعاقبة على هذه المدينة التّاريخية إلى يومنا هذا.
و الحقّ أنّ سحر اسطنبول لا يشعر به الزّائر في نهاية الرّحلة أو في وسطها بل إنه لسحر يتجدّد في كلّ يوم جديد و كأنه يتعاظم بين اللّحظة و تِلْوها فيتمكّن من زائرها فيستجيب له و يرتاح.
إنّ اسطنبول هي المدينة ذات الانتماءين و هي مدينة عالميّة تتميّز بالعراقة و التّنوع و هي بأوصافها جميعًا تستحقّ عناء الزّيارة و تكاليف التّنقل.و هذه هي اسطنبول التي زرتها: ففي أحضانها أحببتها و بعيدًا عنها أذكرها و في هذه السّطور أكتبها.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/