الاثنين، 27 يونيو 2022

ابن حمديس الصّقلي في وهران المتوسّطية

ابن حمديس الصِّقلي ( 1055 – 1133 ) كان حاضرًا حضورًا جميلاً مناسبًا في افتتاح الدّورة 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسّط بوهران و كانت الالتفاتة إلى رجل مثله،في هذه الألعاب التفاتة موفَّقة جديرة بالإشادة و الذّكر.فمن هو ابن حمديس الصّقلي ؟

هو ابن عبد الجبّار أبو بكر الصّقلي المشهور بابن حمديس الصّقلي.وُلد و نشأ في مدينة سرقوسة Syracuse في جزيرة صقّلية Sicile التي فتحها العرب المسلمون سنة 826 للميلاد و هي أكبر الجزر في البحر الأبيض المتوسّط و هي تابعة لإيطاليا و هي،أيضًا، أكبر المقاطعات الإيطاليّة التي تتمتّع بالحكم الذّاتي منذ 1946.  

عاش ابن حمديس 24 سنة في صقّلية ثمّ رحل عنها بعد سقوطها في يد النّورمان Les Normands سنة 1079 الذين أنهَوا الوجود العربيّ الإسلاميّ بالجزيرة الذي دام أكثر من 250 سنة.اتّجه ابن حمديس بعد سقوط صقّلية إلى الأندلس و قد كانت مقسَّمة،بعد سقوط الدّولة الأمويّة فيها، إلى 22 دُوَيلة يحكمها ملوك الطّوائف و اتّصل بحاكم إشبيلية المعتمد بن عبّاد الذي أكرمه و آواه و أحسن وفادته و أصبح من مقرَّبيه و من شعرائه المفضَّلين.

و بعد أنْ استولى المرابطون على إشبيلية انتقل ابن حمديس إلى إفريقية،و هي تونس الحالية مضافًا إليها الشّرق الجزائريّ و مناطق من ليبيا، و اتّصل بالصّنهاجيِّين في القيروان.و لمّا اضطربت الأحوال في تونس انتقل إلى بجاية،عند الحمّاديّين، و ظلّ متنقِّلاً بين الأمصار إلى أن وافته المنيّة في جزيرة ميورقة Majorque بالأندلس بعد ثمانين سنة من الحِلّ و التَّرحال.

يُعرف ابن حمديس،في الدّراسات الأدبيّة، بأنه شاعر الغُربة و الحنين إلى الوطن.و قد تغنَّى كثيرًا،في شعره، بوطنه صقّلية أو جَنَّته كما يسمّيها في شعره.و من هذا الغناء و الحنين هذا المقطع الذي نُقل طَرَبًا في حفل الافتتاح الرّسمي لألعاب البحر المتوسّط:

وراءَك،يا بَحرُ، لي جَنّةٌ *** لبستُ النّعيمَ بها لا الشّقاء

إذا أنا حاولتُ منها صباحًا *** تعرَّضتَ من دونها لي مساء

فلو أنّني كنتُ أُعْطَى المُنَى *** إذا منع البحرُ منها اللّقاء

ركبتُ الهلال به زَوْرقًا *** إلى أن أُعانق فيه ذُكاء

ابن حمديس،إذن، هو شاعر الغُربة المتواصلة و الحنين إلى الوطن.و لئن وطئت قدماه أراضي كثيرة و أقام مكرَّمًا في بلدان و أمصار فإنّ حَنينه،و حبَّه أيضًا، ظلّ،دَوْمًا، لأوّل منزل.

و حين يشتدّ حنينُه إلى وطنه الأوّل و جنَّتِه المفقودة يبكيه بكاءً فيُبدع إبداعًا و يصنع هذا القول الجميل الخالد:

ذكرتُ صقّلية و الأسَى *** يُجدِّد للنّفس تَذكارها

فإن كنتُ أُخْرجتُ من جَنّة *** فإنّي أُحدِّثُ أخبارها

و لولا مُلوحة ماء البكاء *** حسبتُ دموعي أنهارَها

و يمكننا،اليوم، أن نرى ابن حمديس الصّقلي بمنظار آخر فقد نجده يمثّل بُعدًا آخر و قيمًا أخرى إذْ هو واحد من نماذج الحضارة العربيّة الإسلاميّة الذي يمثّل نموذج الإنسان المتوسّطي الذي يظلّ متنقِّلاً بين ضفاف البحر الأبيض المتوسّط في سهولة و يُسر رغم الأوضاع المتدهورة و النّزاعات السّياسيّة و القلاقل المختلفة التي كانت سائدة في بلاد الأندلس و في المغرب الإسلاميّ.ثم إنّ البحر،بحر الأبيض المتوسّط، الذي كان يَمنعه لقاءَ وطنه،كما يقول في شعره، هو البحر نفسُه الذي كان يَنقُله إلى أوطان أخرى فيجد فيها بعضَ عَزائه من حنينه و بُعده عن وطنه و يجد فيها بعض سَلْواه من فَقْده جَنَّته.

ابن حمديس الصّقلي،إذنْ، هو نموذج الإنسان المتوسّطي المتنقِّل بين ضفاف البحر الأبيض المتوسّط في سهولة و يُسر رغم الأوضاع الصّعبة و الاضطرابات الكبيرة يؤكّد القرابة هنا و يحقّق التّواصل هنالك و حوضُ البحر المتوسّط هو مطيَّته و وسيلتُه و هو ملاذُه و مَأواه.و إنّ هذه المعاني الجديدة و القيم الجميلة المُستقاة من صميم الحضارة العربيّة الإسلاميّة قَمين بهذه الألعاب المتوسّطية،و بمناسبات أخرى مثلها، أنْ تُشير إليها و تؤكّد عليها حتّى يصبح حَوْض البحر الأبيض المتوسّط بضفافه و انتماءاته و بجميع ألوانه و أذواقه حَوْضًا للتّعارف و التّواصل و فضاءً كبيرًا للتّعايش المشترك و التّبادل المُثمر في ظلّ الأمن و السّلم و الاحترام المتبادل.

  الحوار: 27 جوان 2022 – العدد 4646


اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/