الأربعاء، 7 يونيو 2017

آخر الرجال


قدمت الفضائيّة الأروبية Arte يوم 06/6/2017 فيلمًا وثائقيًّا عنوانه: Les derniers Hommes ( آخر الرّجال ) يتحدّث عن يوميّات الخُوذ البِيض Les Casques Blancs و هم مجموعات من رجال حلب آثَرت البقاء في المدينة الشَّبَح و أصبح همّهم الوحيد و هدفهم الكبير هو إنقاذ المدنيِّين الذين يَرقدون،أو يَموتون، تحت الحُطام و الهدم و الأنقاض التي خلّفها القصف الحاقد و الأعمى لطائرات النّظام السّوريّ و الوحوش الرّوس.
و تتداخل،في هذا الفيلم الوثائقيّ، عواطف كثيرة متناقضة كاليأس و الأمل و الخوف و الأمن و الفرحة و الحزن و الحبّ و الكره و الغضب و السّكون و المقاومة و التّسليم...و كلّ هذه العواطف تضاعف من إنسانيّة هذه النّماذج البشريّة المتميّزة التي رضِيت معايشة الموت و الفناء لتنقذ ما يمكن إنقاذه من أطفال و رُضَّع،تحت الدّمار، و نساء و شيوخ لا ذَنب لهم و لا حِيلة... 
و من مشاهد هذا الفيلم القويّة التي تقشعرّ لها الجلود و تنهمر لها العيون رؤية الخُوذ البِيض،هؤلاء الأشاوس الأبطال، يُخرجون من تحت الأنقاض مخلوقات بشريّة صغيرة يصل طُولها 50 سم مُغبرّة مُنهكة مُغمضة العينين فاقدة الوعي.
 و في هذه اللّحظات القويّة ترى الخُوذ البِيض،هؤلاء الرّجال العِظام الذين يتعرّضون للموت لإنقاذ الآخرين من الموت، تَرى أعيُنَهم تَفيض من الدّمع يتباكَون فتبكي معهم و أنت البعيد عنهم و عن واقعهم لأنّ إنسانيّتهم أكبر من الموت المسلَّط عليهم و أكبر من الوحشيّة و الأحقاد و هي إنسانيّة عابرة للزّمان و المكان متمرّدة على كلّ السّدود و الحدود.
إنّ فيلم ( آخر الرّجال ) هو درس في الإنسانيّة حين تُبعث من مَرقدها و تَستعلن فتحقّق المعجزات. إنّ مِيزة هذا الفيلم الوثائقيّ أنه فيلم يُخرجنا من غَفلتنا ليُخاطب فينا إنسانيّتنا و من ثَمَّ فإنه فيلم ينبغي مشاهدته لكلّ مَن أراد أنْ تَبقَى حيَّةً فيه إنسانيّتُه التي يَبدو أنها قد ماتت في أعماق هذا العالم المجنون.

وان التي رأيت


لقد شاءت الأقدار أنْ أزور مدينة وان،لؤلؤة الشّرق التّركي، ذات الأغلبيّة الكرديّة و التي تبعد عن اسطنبول بأزيد من 1500 كلم في إطار مؤتمر دوليّ عنوانه: نظرة استراتيجيّة للعالم_الإسلامي في_القرن_الواحد والعشرين فرص تطورات مشاكل وحلول أيّام 10- 14 ماي 2017.
و الحقّ أنّ هذه الزيارة كانت مفيدة من كلّ الجوانب و ممتعة.و قد خلّفت في النّفس مجموعة من المعاني و الأفكار أحبّ تسجيلها في هذا الفضاء.
 إنّ الذي يَلفت الانتباه ابتداء،في مدينة وان، هو نظافة شوارعها و خلو أزقّتها من الأوساخ و النّفايات فلا تكاد تجد في طريقك ما يَصدم ذوقك أو يُقزّزك أو ما يجعل ملامحك تنقبض.
و الحقّ أنّ العناية بالنّظافة في اللّباس و البدن و في البيئة و المحيط ليست أمرًا ثانويًّا بل هي دليل وَعي و علامة نضج و عنوان حضارة و حضور.
 إنّ النّظافة قيمة مضافة و دلالتها لا تختفي و لا تتقنّع و إنّ العناية بها ليست أمرًا هيِّنًا على مستوى الآحاد و الجموع فكيف الحال حين تصبح سلوك مدينة بأكملها و عناية أهلها و اهتمام مؤسّساتها و مَعلمًا من معالمها ؟   الأمر الآخر اللاّفت للانتباه هو هيمنة اللّغة التّركية،دون سواها، على الحياة اليوميّة،في مدينة وان، و تزيينها لعناوين محلاّتها التّجارية و بناياتها الرّسميّة و مؤسّساتها المختلفة. و قد يَعيب بعضُ النّاس هذا السّلوك بحجّة أنّ السّائح أو الضّيف،الذي يجهل هذه اللّغة، قد يجد بعض العَنَت و المشقّة و لا يَسهل عليه الوصول إلى غايته و قضاء حوائجه.
 و لكنّ الجانب الإيجابيّ في هذا السّلوك خلاصته أنّ العناية باللّغة الأمّ ،بهذا الشّكل، هُو دليل على أنّ هذه الأمّ لم يَمُت حبُّها،في القلوب، بعد الكهولة و الاستواء و لم يَذْوِ عِشقها و لم يَنقطع. و كأنّ الأتراك، بهذا السّلوك، يقولون لنا: إنّ الآخرين سيحترموننا حين نحترم لغتنا وإنّ هذا الاحترام الذي نُبديه تجاه لغتنا هو الذي سيشعر به الآخرون نَحوَنا و نحو لغتنا.
 و كأنّ الأتراك،أيضًا، ينطلقون من حقيقة نفسيّة ثابتة و هي أنّ الآخرين لا يحترمونك أبدًا إذا لم تكُن أنت محترمًا لانتمائك ومحترمًا لتاريخك و لغتك.و المتابعون للشّأن التّركي،في ميادينَ مختلفة كالسّياسة و الثّقافة و الاقتصاد، يَلمسون مِصداق هذا الأمر و لا يَخفَى عليهم ظهورُه و قيامه.
و كذلك يَلفت انتباه الزّائر،في مدينة وان، عناية أهلها بالمعالم و الآثار و إحاطتها بهالة من القداسة و الاحترام و الحرص على حضورها أو حضور معانيها في المناسبات و التّجمعات.و لا يَخفَى أنّ العناية بالمعالم و الآثار هي تواصل مع الماضي،بشكل من الأشكال، و اعتزاز بقيمه و معانيه و هي،كذلك، تجسيد للوفاء و تأكيد للانتماء و إثبات للوجود.                           
أمّا زلزال 23 أكتوبر 2011 الذي أصاب مدينة وان و خلّف مئات الضّحايا و المصابين و تسبّب في سقوط العديد من المنازل و البنايات- أمّا هذا الزّلزال فإنّ آثاره لا تكاد تُبين و ليست بادية للعَيان إذْ المدينة،كلّها أو جُلّها، بنايات حديثة و مشاريع جديدة.و كلّ ما في المدينة يَنضح بالحركة و الحياة و يُوحي بالتّجدد و الانبعاث و المغالبة و الاندفاع و يدلّ على أنّ إرادة الحياة،عند سكّان وان، هي أكبر من الموت و الدَّمار و أكبر من الزّلزال و آثاره.
 فكيف استطاعت مدينة واقعة في أقصى شرق البلاد و كانت ضحيّة الزّلزال و آثاره أنْ تُغالب الموت و اليأس و تصنع الأمل و الحياة ؟ إنه الإنسان.و هو وحده القادر على تحقيق مثل هذه المنجزات و أكبر منها و أعظم حين يكون هو مركز العناية و الاهتمام و حين يصبح عُملة التّداول الحقيقيّة و القيمة الكبرى في كلّ الأعمال و المشاريع.
 أمّا طِيبة أهل وان و دماثة أخلاقهم و سهولة تعاملهم و فَيض محبّتهم و زائد كَرمهم و حُسن ضيافتهم فقد لمستُه،و لمسه غيري، مدّة إقامتنا في هذه المدينة ذات الطّبيعة السّاحرة و المناظر الخلاّبة.
 فشكرًا لأهل مدينة وان على جميل كرمهم و طِيب طويَّتهم و شكرًا لكلّ المسؤولين الذين سهّلوا لي،و لغيري، فرصة زيارة هذه المدينة ذات الحُسن و الجمال.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/