الجمعة، 26 أغسطس 2022

سيّد قطب

سيّد قطب ( 09 أكتوبر 1906 – 29 أوت 1966 )

مفكّر و أديب مصريّ له إنتاج كبير في قضايا الفنّ و الأدب و السّياسة و الفكر.تتميّز كتاباته بالقوّة و الأصالة و العمق.و من أكبر أعماله تفسيره ( في ظلال القرآن ) الذي ألّفه في السّجن.حُكم عليه بالإعدام لمواقفه السّياسية ضدّ نظام جمال عبد النّاصر (1918 – 1970).

و إذا كان ( الظّلم من شِيَم النّفوس...)،كما يقول أبو الطّيب المتنبّي ،فقد كان حظّ سيّد قطب حظًّا موفورًا من هذا الظّلم إذْ ظُلِم مرّتَين اثنتَين حين ظلمه صنفان من النّاس: صِنفٌ أحبّه حبًّا كبيرًا فأخرجه هذا الحبّ عن حدود الاعتدال و المعقوليّة و الاتّزان.و صِنفٌ كرهه كرهًا كبيرًا فنسب إليه كلّ المصائب و المثالب و أنواع العنف و الغلوّ و الإرهاب...

إنّ هذا الموقف المتطرّف من سيّد قطب ليس بسلوك غريب لأنّنا نحن العربَ مَفتونين بالأضداد و مَهْووسين بالتّطرف و المغالاة في العواطف و المواقف و يَغيب عن وَعْينا،دائمًا أو غالبًا، إيجادُ الميزان الصّحيح في المواقف المختلفة أو تحقيق توازن الميول في الآراء المتباينة و المصالح المتداخلة.و لا نجد النَّشْوة كلّها و العظمة جُلَّها إلاّ في احتضان المغالاة و اتّخاذها وسيلة و غاية بل منهجًا و تَديُّنًا أحيانًا! و هذا الموقف من سيّد قطب « طبيعيّ » ،أيضًا، لأنّ الحبّ كالكُره كليهما قد يُعْمي و يُصِمّ و قد يقود صاحبَه إلى مواقف و مآلات تحتاج إلى استدراك و تصحيح.

إنّ سيّد قطب،رحمه الله، من الشّخصيات الكبيرة المتميّزة ذات الإبداع و العطاء و ذات السّياحات في العوالم و الأكوان.و إنّ التّعامل مع مثل هذه الشّخصيات و الموقف منها و ابتلاء تُراثها لا يكون إلاّ بقيام أمرَين اثنَين أراهما أساسيَّين: أوّل الأمرَين هو تحقيق الاقتراب منها بشكل من الأشكال بأنْ تعيش معاناتها أو أنْ يُصيبك شيء من هذه المعاناة لأنّ سيّد قطب روح مُشتعل.و هذا الرّوح المُشتعل لا يَقترب من فَهمه و لا يَدنو من عالمه و لا يفوز بتذوّق معانيه و استيعاب أفكاره و الدّوران في فَلَكه إلاّ من أُوتيَ رُوحًا شقيقًا أو رُوحًا أصابه شَيءٌ من هذا الاشتعال أو كان قريبًا منه أو يكاد و إلاّ فسيكون كالمُصاب بعَمَى الألوان لا يَهتدي و لا يَستَبين.

الأمر الثاني المطلوب حين التّعامل مع هذه الشّخصيات و الموقف منها يقتضي تحكيم مبدأ واحد لا شريك له و إقامة ميزان واحد لا غير و هو: التّقدير لا التّقديس أيْ تقدير الشّخصيات الإنسانيّة لا تقديسها.و التّقدير يقتضي أنْ نتعامل مع الشّخصية الإنسانيّة التي هي محلّ الدّراسة و النّقد   أو الموازنة و العَرْض على أنّها شخصيّة إنسانيّة خالصة،في المقام الأوّل، لها ما لها و عليها ما عليها ذاكرين ضعفها و قوّتها و مُبْرزين تدفّقها و نُضَوبها و واقفين عند إضافاتها النّوعية و إخفاقاتها البَيِّنة لأنه ليس أحدٌ من النّاس إلاّ يُؤخَذ من قوله و يُتْرك إلاّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم...أمّا التّقديس فهو خروج بهذه الشّخصية الإنسانيّة عن وَضعها الإنسانيّ الأوّل الذي يقتضي النّقص و القصور.و إنّ سيّد قطب،رحمه الله، شخصيّة إنسانيّة يَسْري عليها ما يَسْري على جُموع الأناسيّ من أوصاف النّقص و القصور و يُصيبها ما يُصيب الآدميِّين من الخطأ و النّسيان و العجز و الافتقار.   

و إذا عُدْنا إلى الكُتّاب و المُبدعين الكبار وأساطين العلم و المعرفة،في الحضارة الإسلاميّة، لا نجدهم يخرجون عن تحكيم هذا الميزان في المواقف و العواطف و إصدار الأحكام.و هذا الميزان الذي يتناول الشّخصية الإنسانيّة بكُلِّيتها: بفَضْلها و نَقْصها و قوّتها و ضعفها و لا يأخذ الأمور عِضِين و لا يتناول هذه الشّخصيات الإنسانيّة أجزاء و تقاسيم هو الذي نجد له أصداء و أسماء في علم كبير في الحضارة الإسلاميّة هو علم الجَرح و التّعديل الذي يدلّ بمَبناه و معناه على أهمّيته و عظمته و تميّزه و سَبْقه.

هذا هو الميزان القويّ الذي كان سائدًا في البيئات العلميّة المختلفة إبّان قوّة الحضارة الإسلاميّة و إشعاعها.و لكنّ الذين جاءوا من بَعدُ تنكَّبوا قليلاً أو كثيرًا عن هذا الميزان فاختلطت عليهم الأمور كما تختلط الألوان على المُصاب بعَمَى الألوان.

بعد هذه التّقدمة نصل إلى إثبات موقف،أظنُّه صوابًا، خلاصتُه أنّ سيّد قطب مَعْلَم من معالم الثّقافة العربيّة و الإسلاميّة الحديثة و عَلَمٌ من أعْلامها الكبار و قد أغنى المكتبة العربيّة بسَيل كبير من الإنتاج ذي القوّة و العمق و الأصالة و السَّبق.و إبداعه الغزير في الفنّ و النّقد و الأدب و دراساته الإسلاميّة و نظريّته في التّصوير الفنّي في القرآن و ( ظِلالُه ) و ( عدالتُه ) و  ( خَصائصُه ) و ( معالمُه ) و إنتاجه الكبير في السّياسة و الفكر و إضافاتُه النّوعية في نقد الفلسفات و الإيديولوجيّات و تحليلها و تفكيكها...كلّ أولئك هو إبداعٌ نَسِيجُ وَحْدِه و هو جدير بالنّشر و القراءة و الاهتمام و هو حَقيق،أيضًا، بالنّقد و التّصويب أو التّصحيح و الاستدراك...

-----   -----   -----   -----   -----

مقتطفات من كتاب ( أفراح الرّوح ) و هو،في الأصل، مجموعة خواطر بعثها سيّد قطب إلى أخته أمينة:

( حين نعتزل الناس لأنّنا نُحسّ أنّنا أَطْهَر منهم روحًا أو أَطْيَب منهم قلبًا أو أَرْحَب منهم نفسًا أو أَذكَى منهم عقلاً لا نكون قد صَنعنا شيئًا كبيرًا...لقد اخْتَرنا لأنفسنا أَيْسر السُّبل و أقلَّها مؤونة.إنّ العَظَمة الحقيقيّة أنْ نُخالط هؤلاء النّاس مُشبَّعين بروح السّماحة و العَطف على ضُعفهم و نَقصهم و خَطَئهم و رُوح الرَّغبة الحقيقيّة في تَثقيفهم و تطهيرهم و رَفعهم إلى مُستوانا بقَدر ما نستطيع.و ليس معنى هذا أنْ نتخلَّى عن آفاقنا العُليا ومُثُلنا السّامية أو أنْ نتملَّق هؤلاء الناس ونُثْني على رذائلهم أو أنْ نُشْعِرَهم أنّنا أَعْلى منهم أفُقًا.إنّ التّوفيق بين هذه المتناقضات وسَعَة الصّدر لِما يتطلّبه هذا التّوفيق من جُهد هو العظمة الحقيقيّة ).

( لا شَيْءَ في هذه الحياة يَعْدِل ذلك الفرحَ الرُّوحي الشَّفيف الذي نَجده عندما نستطيع أنْ نُدخِل العَزاء أو الرِّضَى و الثّقة أو الأمَل أو الفرح إلى نُفوس الآخرين ).

( عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة: تبدأ من حيث بَدأنا نَعِي و تنتهي بانتهاء عُمرنا المحدود.أمّا عندما نعيش لغيرنا،أيْ عندما نعيش لفكرة فإنّ الحياة تبدو طويلة عميقة: تبدأ من حيث بدأت الإنسانيّة وتمتدّ بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.إنّنا نربح أضعاف عمرنا الفرديّ في هذه الحالة: نربحها حقيقة لا وَهْمًا.فتصوُّر الحياة على هذا النَّحو يُضاعف شعورَنا بأيّامنا وساعاتنا ولحظاتنا...و ليست الحياة بِعَدّ السّنين و لكنها بعِداد المشاعر...لأنّ الحياة ليست شيئًا آخرَ غَيَر شُعور الإنسان بالحياة.جَرِّدْ أيَّ إنسانٍ مِنَ الشّعور بحياته تُجَرِّدْه من الحياة ذاتها في معناها الحقيقيّ.و مَتَى أحسَّ الإنسان شُعورًا مضاعَفًا بحياته فَقَد عاش حياةً مضاعفةً فعلاً ).

( عندما نَلمس الجانبَ الطّيّب في نفوس النّاس نجد أنّ هناك خيرًا كثيرًا قد لا تراه العيون أوّل وَهْلة.لقد جَرَّبتُ ذلك..جرّبتُه مع الكثيرين حتى الذين يبدو في أوّل الأمر أنّهم شَرِّيرون أو فقراء الشّعور.شَيءٌ من العطف على أخطائهم و حماقاتهم.شَيءٌ من الوُدّ الحقيقيّ لهم.شَيءٌ من العناية غير المتصنَّعة باهتماماتهم وهمومهم...ثم ينكشف لك النَّبع الخَيِّر في نفوسهم حين يمنحونك حُبَّهم ومودّتهم وثقتهم في مقابل القليل الذي أعطيتهم إيّاه من نفسك متى أعطيتهم إيّاه في صدق وصفاء وإخلاص.إنّ الشّر ليس عميقًا في النّفس الإنسانيّة إلى الحدّ الذي نتصوّره أحيانًا.إنّه في تلك القشرة الصّلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء.فإذا أَمِنوا تَكشَّفت تلك القشرة الصّلبة عن ثمرة حلوة شهيّة...).

(...لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تَنْبت في ذهن بارد لا في قلب مُشِعّ.آمِنْ أنتَ أوّلاً بفكرتك.آمِن بها إلى حَدّ الاعتقاد الحارّ.عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون.و إلاّ فستبقَى مجرّد صياغة لفظيّة خالية من الرّوح و الحياة.لا حياةَ لفكرة لم تتقمَّص رُوح إنسان و لم تصبح كائنًا حيًّا دَبَّ على وجه الأرض في صورة بشر.كلُّ فكرة عاشت قد اقْتاتت قلبَ إنسان.أمّا الأفكار التي لم تَطْعَمْ هذا الغذاء المُقدَّس فقد وُلدَتْ ميِّتة ولم تَدفع بالبشريّة شبرًا واحدًا إلى الأمام ).

( لَمْ أَعُد أَفْزَع من المَوت حتّى لو جاء اللَّحظة.لقد عَملتُ بقَدْر ما كنتُ مُستطيعًا أنْ أَعمل.هناك أشياء كثيرة أودُّ أنْ أعملها لو مُدَّ لي في الحياة و لكنَّ الحَسرة لَن تأكلَ قلبي إذا لمْ أَسْتطعْ.إنّ آخرين سَوف يَقومون بها.إنّها لنْ تموت إذا كانت صالحةً للبقاء.فأنا مُطمئنٌّ إلى أنّ العناية التي تَلْحظُ هذا الوجود لن تَدَع فكرة صالحة تمُوت ).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/