الخميس، 11 أغسطس 2022

السّفر قطعة من العذاب ؟


السّفر :هل هو،حقيقة، قطعة من العذاب ؟ و إذا كان الحال كذلك فما تجلية هذا الأمر ؟

النّصوص الدّينية الواردة في موضوع السفر قسمان: أمّا القسم الأول فمحكوم بصحّته و من هذا القَبيل ما رواه البخاري و مسلم: ( السّفر قطعة من العذاب يَمنع أحدكم طعامه و شرابه و نومه. فإذا قَضى نهمته فلْيُعَجِّل إلى أهله ).

أمّا القسم الثاني من هذه الأحاديث فهو محلّ الرأي و الاختلاف و من هذا النوع: ( سافروا تصحوا و تغنموا ) و ( سافروا تصحوا و تسلموا ) و ( سافروا تصحوا و ترزقوا )...و في هذا القسم الثاني قد وردت أحاديث أخرى،بصيغ مختلفة، تربط بين السفر و الصوم و الغزو لتحقيق الصحة و الغنيمة والسلامة و الرزق. هذا القسم الثاني من الأحاديث،بصيغها المتباينة، اختلف في شأنها علماء الحديث و المحققون.و الظاهر أن سبب اختلافهم هو الطرق المختلفة التي وردت بها هذه الأحاديث و هي التي جعلتهم يحكمون عليها بأحكام تنتقل من الضعف و الوضع إلى الصحة و التحسين.و يمكن العودة إلى هذا الخلاف العلمي في مظانّه و أسفاره لأنه لا يهمنا في هذا المقام.و لكن بعيدا عن ساحة هذا الخلاف العلمي و تفصيلاته فإن هذا القسم من أحاديث السفر،على فرض ضعفه، فإن معناه صحيح.و بيان هذا الأمر كله مضافا إليه بيان أن السفر قطعة من العذاب كل أولئك تتكفل به الخطوط التالية.

إنّ وصف السّفر بأنه ( قطعة من العذاب…) في الحديث الصحيح ليس وصفًا على الحقيقة و إنما هو وصف على المجاز و بيان للحال الناشئة من السفر و ما يلقاه المسافر من فقد و حرمان و مشقة وعنت و منغصات.و توضيح هذا الأمر أن المسافر،حين يكون في سفره ،سيخرج من كل ما كان قد عهده في حاله قبل السفر حين كان متحكما بقدر كبير في تنظيم أوقات طعامه و شرابه و نومه و سائر وظائفه الحيوية و عاداته…و يكون حينئذ،أي أثناء سفره ،في وضع مختلف تماما عن وضعه الأول أو وضعه الطبيعي فيفقد بعضا،أو كلا، مما كان متحكما فيه أو كان قد ألفه و تعوده في حال الإقامة في أهله و بين سربه. و قد قال الإمام النّووي في شرحه لهذا الحديث: ( معناه: يمنعه كمالها ولذيذها لِمَا فيه من المشقَّة والتعب ومقاساة الحر والبرد و السُّرَى و الخوف و مفارقة الأهل و الأصحاب وخشونة العيش ).

إنّ وصف السفر بأنه ( قطعة من العذاب…) في الحديث الصحيح إنما هو وصف على المجاز و ليس وصفا على الحقيقة و ليس فيه،البتة ، جرح لماهية السفر أو انتقاص من أهميته و نفعه أو ازدراء لفاعله.

و لعلّ سائلا يسأل: كيف يمكن التوفيق بين معنى حديث ( السفر قطعة من العذاب…) و معاني الأحاديث الأخرى،و قد تقدّم بعضها، التي تجعل الصّحة و الغنيمة و السّلامة و الرّزق متحقَّقة في السفر ؟ الجواب سهل يسير و قد أجاب عنه بعضهم بالقول بأنه لا تعارض بين الحديثين الشريفين لأنه لا يلزم من وجود الصحة و الغنيمة و الرزق في السفر لما فيه من الحركة و التنقل والتجوال أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة و المنغصات و افتقاد للمألوف من الطعام و الشراب و النوم و سائر الأحوال و العادات.ويكون السفر بهذا الإيضاح و التفصيل شبيها بالدواء المر الذي يهب صاحبه الصحة و السلامة و العافية.

السفر،إذن، هو قطعة من العذاب مجازا و ليس حقيقة،بالمعاني التي سبق بيانها، و هو متعدد النفع كثير الفوائد.و قد لخص بعضها الإمام الشافعي في أبياته المشهورة:

تغرب عن الأوطان في طلب العُلا *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

إزالة هم و اكتساب معيشة *** و علم و آداب و صحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار غمٌّ و كربة *** و قطع الفيافي و ارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من حياته *** بدار هوان بين واش وحاسد.

و قد توسع أبو منصور الثعالبي،أيضا، في بيان منافع السفر في كتابه: ( اللطائف و الظرائف ) فقال: (...السفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه ونظامه لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعض.و من فضله أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار و محاسن الآثار ما يزيده علما و يفيده فهما بقدرة الله وحكمته و يدعوه إلى شكر نعمته و يسمع العجائب و يكسب التجارب و يفتح المذاهب و يجلب المكاسب و يشد الأبدان و ينشط الكسلان و يُسلي الأحزان و يطرد الأسقام و يُشهِّي الطعام و يحط سَوْرة الكبر و يبعث على طلب الذكر ).

و يمكن لي أن أضيف منافع أخرى،قبل مغادرة هذا المقام، هي صنوان لما تقدم أو تكملة لما مضى خلاصتها أن السفر هو مناسبة للخروج من المنطقة الآمنة Confort Zone التي هي أفكارنا القَبْليّة و تصوّراتنا الأوّلية التي نأوي إليها و نقوم بترديدها و المحافظة عليها دون التّفكير في تغييرها. و هذه المنطقة هي منطقة الرّاحة و الأمان التي نجد فيه راحتنا النّفسية و الجسديّة بإشباع كلّ لذّاتنا و الاستجابة لكلّ دوافعنا و هي المنطقة التي تُشْعرنا بالثّقة و السّيطرة و تملأنا باللّذة و السعادة و الرّضا لأنّها منطقة عاداتنا اليوميّة الحبيبة إلى أنفسنا التي لا تتغيّر و تصوّراتنا القَبْليّة التي لا تتبدّل و هي،كذلك، المنطقة التي لا تُكلّفنا الجهد الكبير و لا تفرض علينا المعاناة الكُبرى.

و السّفر ،لكونه قطعة من العذاب، حين يخرجنا من منطقتنا الآمنة و يكسر سلسلة العادة في حياتنا و يقطع لذّة المَألوف في أوقاتنا و ينتشلنا من منطقة الوضع الحالي Status quo التي تمنعنا من التّقدم و التّطور و التّجديد و تمنعنا تنمية طاقاتنا و مواهبنا…السّفر حين يصنع ذلك و أكثر فإنه يضيف إلى أعمارنا أعمارا أخرى و إلى تجاربنا تجارب كبرى و إلى عواطفنا و أرواحنا غناء و ثراء و كميات و مساحات و ينقلنا من قفص واقعنا الضيق المحدود و سجن يومياتنا الصغيرة المتعبة إلى الواقع الإنساني الكبير و فضاء الإنسانيّة الأكبر.

و السّفر هو وسيلة من وسائل اكتشاف الذات و الوقوف على نقصها وعيوبها و مخاوفها و هواجسها و شكوكها و ظنونها فيهبنا وعيا جديدا بذاتنا و معرفة حقيقية بدخيلتنا و خفايانا.و هذا الأمر كله ما كان ليتحقق لو كنا في حال الإقامة و البُلَهْنيَّة و السكون.

و من بركات السّفر ،كذلك،أنه يمنحنا مناسبة اكتشاف بلدان أخرى و أقاليم أخرى و ثقافات أخرى و أفكار و لغات و عادات و تقاليد و أذواق و ألوان و يضع،أمامنا، هذه الصورة الجميلة للعالم القائم على التنوع و الاختلاف.و كل ذلك هو إضافة نوعية إلى رصيدنا الإنسانيّ و توسعة لمداركنا و إثراء لمكتسباتنا الروحية و العلمية و الثقافية.

و من حسنات السّفر ،أيضًا، أنه يسهل العلاقة مع الآخر و يحقق التواصل مع كل من حولك من الناس. فقد تبدأ السفر وحيدا و لكنك سرعان ما تكتشف أنك لست وحدك و أنك محاط بأناس كثيرين في أي مكان تقصده: تتعرّف على أناس هنا و تربط علاقات مع آخرين هناك و تتعاطف مع جموع هنالك و تتبادل التحية مع هؤلاء و تتقاسم الإنسانية مع أولئك...و السّفر حين يربطك هذا الربط الجميل و المميز بالكون و العالم و الطبيعة و الأحياء فإنه يملأك،في الوقت نفسه، بعواطف قويّة و خواطر سَنيّة و يشحنك بروح جديد و إقبال قويّ و عزم ظاهر و تفاؤل كبير.


الحوار: الثلاثاء: 2 أوت 2022 / العدد: 4673

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/