الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

السّحر الخفيّ للمسلسلات

صدر في 25 أوت الماضي كتاب ( السّحر الخفيّ للمسلسلات )  Le Charme discret des  séries  لصاحبته فيرجيني مارتن.و تتناول الكاتبة،في هذه الدّراسة، ذلك السّحر الخفيّ الذي تمارسه علينا المسلسلات كما تقوم بتفكيك الآليات المختلفة و الأساليب التي تجعلها تؤثّر في تفكيرنا و في يوميّاتنا فنُدمن عليها و نستسلم لها في سهولة و يُسْر.و لم يَفُت الكاتبة،أيضًا، أن تُحيطنا علمًا بالجانب الآخر للمسلسلات و المتعلّق بكتّاب السّيناريوهات و التّمويل و القيم و الأفكار المقصود نشرها و تسويقها.و قيمة هذا الكتاب أنه لم يَقف عند المسلسلات الأنجلو ساكسونية أو الغربية فقط بل تعدّاها إلى المنتجات البرازيلية و الكوريّة الجنوبية و اليابانيّة و التّركيّة و الهنديّة.

و يمكن القول بأنّ للمسلسلات تأثيرًا خاصًّا على المشاهدين يختلف عن ذلك التّأثير النّاشئ من الأفلام.و لذلك أصبحت تحظى بنصيب كبير من الإنتاج التّلفزي و السّينمائيّ في كلّ الدّول.و لم تتخلّف منصّات التّدفق و البثّ المباشر المُهَيمنة مثل netflix, disney+, amazon prime video… عن الاهتمام بهذا النّوع من الإنتاج لأنه أصبح سلعة رائجة يمكن من خلالها نشر الأذواق و الألوان و تفسير الحوادث و الظّواهر و إعادة صياغة العقول وفق النّظرة الأمريكيّة و الغربيّة للكون و العالم.

و بعيدًا عن محتوى هذا الكتاب يمكن القول بأنّ المسلسلات،خلافًا للأفلام، تتميّز بقدرتها الهائلة على امتلاك المشاهد امتلاكًا فتجعله مشاهدًا مَهووسًا و مدمنًا بليد الحسّ مشلول التّفكير فتتحكّم،حينئذ، في وقته و في أعصابه تحكّمًا حقيقيًّا و تصنع اهتماماته و تصوغ أفكاره المختلفة عن الحياة و المجتمع و الكون و العالم.

و اللاّفت للانتباه في المسلسلات أنّها تستطيع اختراق وعي جموع المشاهدين و التّأثير في عقلهم الباطن ثمّ إعادة تشكيله و صياغته بصورة عجيبة و بأسلوب فريد لا تستطيعه الأفلام و لا هو في مُكْنتها.

و تلجأ المسلسلات لتحقيق هذا الغرض إلى التّوسل بأساليب كثيرة منها الإثارة المختلفة و صناعة الأحداث المتناقضة و التقلّب السّريع للشّخصيات و تبادل الأدوار و جعل غير الممكن واقعًا ممكنًا بالاعتماد على عنصر المفاجآت التي لا تنتهي و إعلان السّيطرة الكاملة للعواطف و النّزوات و اختفاء قيم المعقوليّة و المسؤوليّة...فلا شيء يَهُمّ في النّهاية سوى الظّفر بالشّيء و حيازته و تحقيق التّألق و النّجاح بأيّ كيفيّة و بأيّ أسلوب.

إنّ هذه المسلسلات التي يزداد الطّلب عليها و الافتتان بها و يتضاعف الإدمان عليها،لدى فئات اجتماعيّة مختلفة، ليست بريئة و ليست حياديّة تمامًا لأنها تتسلّل إلى عقلنا الباطن في غفلة منّا فتحرّك قناعاتنا و تغيّر من تصوّراتنا و أفكارنا و مواقفنا دون رفض منّا و دون مقاومة تُذكر.

و هذا السّحر الذي تفرضه المسلسلات على المشاهدين يُمكِّنها من التّأثير على رؤيتهم للعالم و الحياة حين تُعيد صياغة أفكارهم القبليّة عن السّعادة و النّجاح و عن الحياة و الموت و المتعة و الجنس و التّكسب و المال و الطّهارة و العفاف و التّدين و التّحلل و الألوان و الأذواق و التّعرّي و اللّباس و العلاقات العائليّة و المواضعات الاجتماعيّة و قضايا الثّقافة و السّياسة و الاقتصاد...كلّ أولئك يدخل في اهتمامات المسلسلات ابتداءً من كتابة السّيناريوهات و تبعيّة و مآلاً عند الإنجاز و الإخراج.و بسبب هذا السّحر الخفيّ و بسبب هذه الجاذبيّة الكبيرة أصبحت المسلسلات جزءًا من القوّة النّاعمة ذات التّأثير الخفيّ الواسع المضمون على المديَين المتوسّط و البعيد.

و هناك ظاهرة بارزة في معظم المسلسلات الأمريكيّة و الغربيّة عمومًا،و خاصّة تلك التي تبثّها المنصّات المُهَيمنة، و هو سعيها اللّاهث لتصوير الفئات الاجتماعيّة المُهمَّشة و الذين يعانون من العقد النّفسيّة و العقد الفكريّة و العقد الأخلاقيّة و المصابين بالشّذوذ بأنواعه المختلفة و تصوير الهويّات الهَجينة من خلال خلط الأنواع و المتحوِّلين جنسيًّا...و تسليط الأضواء على كلّ أولئك و تبريره و تزيينه و جعله أمرًا عاديًّا و متقبَّلاً.و حجّة  القائمين على هذه المسلسلات أنّ الظّواهر و الأشياء إذا لم يَتمَّ تصويرُها فهي غير موجودة أو مهمَّشة.و ظهورها و تصويرها في الإعلام و في المسلسلات يجعلها حقيقيّة تحظى بنصيب من الواقعيّة و الوجود.

إنّ الذي يستهدفه هذا النّوع من المسلسلات هو هَدْم المعياريّة في حياة النّاس و تَهيئة المجتمعات نفسيًّا و فكريًّا لقبول هذا « الواقع الهَجين » بعيدًا عن المعايير الإنسانيّة و الأُطر الاجتماعيّة المعروفة و تسهيل انتقال النّاس إلى هذا « المستقبل الهَجين » الذي يصبح فيه كلّ شيء هجينًا   متحوِّلاً و غيرَ ثابت و مفروضًا و متقبَّلاً

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/