لقد شاءت الأقدار أنْ أزور مدينة وان،لؤلؤة الشّرق التّركي، ذات الأغلبيّة
الكرديّة و التي تبعد عن اسطنبول بأزيد من 1500 كلم في إطار مؤتمر دوليّ عنوانه: نظرة استراتيجيّة للعالم_الإسلامي في_القرن_الواحد والعشرين فرص تطورات مشاكل
وحلول أيّام 10- 14 ماي 2017.
و الحقّ أنّ هذه الزيارة كانت مفيدة من كلّ الجوانب و ممتعة.و قد خلّفت في
النّفس مجموعة من المعاني و الأفكار أحبّ تسجيلها في هذا الفضاء.
إنّ الذي يَلفت
الانتباه ابتداء،في مدينة وان، هو نظافة شوارعها و خلو أزقّتها من الأوساخ و
النّفايات فلا تكاد تجد في طريقك ما يَصدم ذوقك أو يُقزّزك أو ما يجعل ملامحك
تنقبض.
و الحقّ أنّ العناية بالنّظافة في اللّباس و البدن و في البيئة و المحيط ليست
أمرًا ثانويًّا بل هي دليل وَعي و علامة نضج و عنوان حضارة و حضور.
إنّ النّظافة قيمة مضافة و دلالتها لا تختفي و لا تتقنّع و إنّ
العناية بها ليست أمرًا هيِّنًا على مستوى الآحاد و الجموع فكيف الحال حين تصبح
سلوك مدينة بأكملها و عناية أهلها و اهتمام مؤسّساتها و مَعلمًا من معالمها ؟ الأمر الآخر اللاّفت للانتباه هو هيمنة اللّغة
التّركية،دون سواها، على الحياة اليوميّة،في مدينة وان، و تزيينها لعناوين
محلاّتها التّجارية و بناياتها الرّسميّة و مؤسّساتها المختلفة. و قد يَعيب بعضُ
النّاس هذا السّلوك بحجّة أنّ السّائح أو الضّيف،الذي يجهل هذه اللّغة، قد يجد بعض
العَنَت و المشقّة و لا يَسهل عليه الوصول إلى غايته و قضاء حوائجه.
و لكنّ الجانب
الإيجابيّ في هذا السّلوك خلاصته أنّ العناية باللّغة الأمّ ،بهذا الشّكل، هُو دليل على أنّ هذه
الأمّ لم يَمُت حبُّها،في القلوب، بعد الكهولة و الاستواء و لم يَذْوِ عِشقها و لم
يَنقطع. و كأنّ الأتراك، بهذا السّلوك، يقولون لنا: إنّ الآخرين سيحترموننا حين
نحترم لغتنا وإنّ هذا الاحترام الذي نُبديه تجاه لغتنا هو الذي سيشعر به الآخرون
نَحوَنا و نحو لغتنا.
و كأنّ الأتراك،أيضًا، ينطلقون من
حقيقة نفسيّة ثابتة و هي أنّ الآخرين لا يحترمونك أبدًا إذا لم تكُن أنت محترمًا
لانتمائك ومحترمًا لتاريخك و لغتك.و المتابعون للشّأن التّركي،في ميادينَ مختلفة
كالسّياسة و الثّقافة و الاقتصاد، يَلمسون مِصداق هذا الأمر و لا يَخفَى عليهم
ظهورُه و قيامه.
و كذلك يَلفت انتباه الزّائر،في مدينة وان، عناية أهلها بالمعالم
و الآثار و إحاطتها بهالة من القداسة و الاحترام و الحرص على حضورها أو حضور
معانيها في المناسبات و التّجمعات.و لا يَخفَى أنّ العناية بالمعالم و الآثار هي
تواصل مع الماضي،بشكل من الأشكال، و اعتزاز بقيمه و معانيه و هي،كذلك، تجسيد
للوفاء و تأكيد للانتماء و إثبات للوجود.
أمّا زلزال 23 أكتوبر 2011 الذي أصاب
مدينة وان و خلّف مئات الضّحايا و المصابين و تسبّب في سقوط العديد من المنازل و
البنايات- أمّا هذا الزّلزال فإنّ آثاره لا تكاد تُبين و ليست بادية للعَيان إذْ
المدينة،كلّها أو جُلّها، بنايات حديثة و مشاريع جديدة.و كلّ ما في المدينة يَنضح
بالحركة و الحياة و يُوحي بالتّجدد و الانبعاث و المغالبة و الاندفاع و يدلّ على
أنّ إرادة الحياة،عند سكّان وان، هي أكبر من الموت و الدَّمار و أكبر من الزّلزال
و آثاره.
فكيف استطاعت مدينة واقعة في أقصى شرق البلاد و كانت ضحيّة الزّلزال و
آثاره أنْ تُغالب الموت و اليأس و تصنع الأمل و الحياة ؟ إنه الإنسان.و هو وحده القادر على تحقيق مثل هذه المنجزات و أكبر منها و أعظم حين يكون هو
مركز العناية و الاهتمام و حين يصبح عُملة التّداول الحقيقيّة و القيمة الكبرى في
كلّ الأعمال و المشاريع.
أمّا طِيبة أهل وان و دماثة أخلاقهم و سهولة تعاملهم و
فَيض محبّتهم و زائد كَرمهم و حُسن ضيافتهم فقد لمستُه،و لمسه غيري، مدّة إقامتنا
في هذه المدينة ذات الطّبيعة السّاحرة و المناظر الخلاّبة.
فشكرًا لأهل مدينة وان على جميل كرمهم
و طِيب طويَّتهم و شكرًا لكلّ المسؤولين الذين سهّلوا لي،و لغيري، فرصة زيارة هذه
المدينة ذات الحُسن و الجمال.