الأحد، 28 يوليو 2013

مثـقّـفو الانقلاب



توجد،في الوطن العربيّ، طائفة من المفكرين و المثقفين يصحّ وصفهم بمثقّفي الخدمات.و سبب هذا الوصف الذي يلازمهم أنهم موهوبون في فنّ واحد لا يحسدهم كثير من النّاس عليه ألا و هو فنّ الانحياز إلى السلطة القائمة في كلّ الأحوال و الوقوف إلى جانب الحكومات الجائرة و الدّفاع عن الاستبداد و تزيين جرائمه و تسويق مساوئه و جعله وضعًا طبيعيًّا و أمرًا متقبّلاً.
و هذه الطائفة ليست نوعًا واحدًا بل هي أنواع مختلفة و ألوان تحسن دورها المنوط بها و هي تُشهره و لا تُخفيه و هي طَوع يد الاستبداد يشير إليها فتستجيب و في خدمة الحكومات الجائرة لا تتوانى و لا تستقيل.

و قد ظهر هذه الأيّام،في مصر، بعض المفكرين و المثقفين ينتمون إلى طائفة مثقّفي الخدمات يصحّ تسميتهم بمثقّفي الانقلاب لأنهم ارتضَوا أن يدافعوا عن جريمة الانقلاب العسكريّ و تنادَوا لتزكيته و تبرير جرائمه.
و لئن كانت أعداد معتبرة من هؤلاء قد اختارت الانزواء و الاختفاء وراء جدار الصّمت و البعد عن المشاهد و الأضواء فإنّ أعدادًا أخرى،لأسباب ما، قد ركبت دبّابة الانقلاب العسكريّ و اختارت مواقف أخرى قد تخسر فيها
الكثير لأنها تقود إلى طريق مسدود.
و قد اختار هؤلاء أن يتنازلوا،طواعيّة، عن تلك العقلانية التي كانوا يدّعون وَصلاً بها و يصمّون آذاننا بها سنين عددًا كما  تنازلوا عن مواقفهم الرّاسخة التي كانوا يتزيَّون بها أو يخدعون بها جموع النّاس و لبسوا مسوحًا أخرى موافقة للعهد الجديد عهد الانقلاب العسكريّ.إنّ هؤلاء المفكرين و المثقفين،في مصر، اليوم يعيشون أزمة حادّة لا يعيشها أحد غيرهم منذ 3 يوليو الماضي.
  
و الأمر العُجاب أن هؤلاء المفكرين و المثقفين لم يتورّعوا من ركوب الدّبابات و السيارات المصفّحة و التّحالف مع الجنود  المناكيد لنشر وعيهم الجديد و تزكية الانقلاب العسكريّ و مدح الانقلابييّن المغامرين من طرْف خفيّ.
و لا يَفتأ هؤلاء يُرغون و يُزبدون و يصيحون،بصيغ جوفاء و عبارات فارغة، في وجه كلّ سامع أن الانقلاب العسكري هو إجراء لا بدّ منه و أنه تصحيح لمسار ثورة 25 يناير 2011 و ليس انقضاضًا عليها أو اغتيالاً للرّوح التي خلقتها أو قمعًا للقيم التي أفرزتها.و يحتاج المرء لمطاوعة هؤلاء في أمرهم و التّواطؤ معهم و مقاسمتهم هذا الموقف أن يكون مثلهم في التّفكير و في الضّمير أو أن يلغي عقله و يَنحر كلّ حبّة فهم و إدراك لَديه و كلا الأمرين صعب التّحقيق بعيد المنال.

و من هؤلاء المفكرين و المثقفين الذين ركبوا موجة الانقلاب العسكريّ و باركوها الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة.فقد استمعت إليه في مناسبات عديدة،في المحطات الفضائية، بعد انقلاب 3 يوليو يلقي أحكامًا،و هو ليس قاضيًا، و يقدّم حججًا واهية و آراء مغلوطة لتبرير الانقلاب العسكريّ و تزكية الأوضاع النّاشئة في أثره.
و الحقّ أني كنت،قبلُ، من الذين يستفيدون من تحليله الموضوعيّ للموا قف و من نظرته العلميّة للأحداث و لكنّي لم أستطع متابعته في شطحاته الجديدة و قد تعذّر عليّ مجاراته في هذا السقوط.و الذي يُقضى منه العجب أن لغة الدكتور حسن نافعة و حُججه،بعد 3 يوليو الماضي، أصبحت شبيهة بلغة المراهقين الغُفّل في حركة تمرّد الذين يجدون منتهى سعادتهم بل قمّة لذّتهم في وقوفهم أمام الأضواء و الكاميرات.
إن الذي يُؤسف له أن الدكتور حسن نافعة يتّبع أسلوبًا مبتذلا و غير سليم لا يليق بشخصه و مقامه حين يتحدّث عن الأوضاع الملتهبة في مصر.ففي إحدى لقاءاته على الجزيرة الفضائية قال كلامًا خلاصته أن الشّعب المصري الذي خرج يوم 30 يونيو و قد قُدّر عدده بثلاثين مليونًا- هذا الشّعب هو الذي أنشأ هذه الأوضاع الجديدة و ليس الانقلابيّون في الجيش المصريّ.و لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن عدد الثلاثين مليونًا الذي يستعذب ذكره الدكتور،كغيره من المتواطئين مع الانقلاب العسكريّ، هذا العدد المضخّم فيه كلام و عليه استدراك و لا يخلو من طعن.و قد قامت جهات مختلفة مصرية و أجنبية بالتّحقيق في هذا الأمر و بيان تهافته.

الأمر الآخر الذي يلجأ إليه الدكتور نافعة لتزكية الانقلاب و الاستخفاف بعقول النّاس و الاستهانة بكلّ من لا يقول قوله أو يفكّر مثله هو ادّعاؤه أن الإخوان المسلمين في الانتخابات القادمة لن يحصلوا على أغلبيّة لأن الشعب قد انفضّ عنهم بعد أن جرّبو الحكم و فشلوا فيه.و هذا الأمر غريب أيضًا بل هو مضحك و لا يليق برجل يحترم علمه و عقله احترامًا قليلاً و لا يُفهم كيف يصدر من رجل اختصاصه العلوم السّياسة.
و توضيح هذا الأمر أن إلقاء الأحكام القطعية ليس من أوصاف العقلية العلمية و هو منافٍ للبحث العلميّ و أدواته.ثمّ إن مثل هذا العمل الذي يتصدّى له الدكتور نافعة،و هو جالس في القاعات المكيّفة، هو من اختصاص المراكز المختصّة التي تقوم بسَبر الآراء و تتولّى متابعة المواقف و الأفكار و قياس ميولات النّاس في الانتخابات و درجة إقبالهم عليها و مقاطعتهم لها و بيان الأسباب و الملابسات...
و كلّ أولئك إنما يتحقّق بواسطة بحوث ميدانيّة و توزيع بيانات و ملء استمارات و الإجابة على سؤالات تقود
نتائجها،في الختام، إلى إعطاء صورة قريبة لهذه الأوضاع المعقّدة و الوصول إلى أحكام قائمة على الظّن أو على غلبته يُستأنس بها و لا يُعوّل عليها وحدها في اكتناه الأمور و فهم الأوضاع المختلفة و الإحاطة باتّجاهات النّاخبين و حصر
ميولاتهم.
فإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل الدكتور حسن نافعة يجزم هذا الجزم و يجعل العقلانية و العلميّة وراءه ظهريًّا أو تحت قدميه حين يؤكّد أن الإخوان المسلمين،في الانتخابات القادمة، لن يحصلوا على الأغلبيّة لأن الشعب المصريّ قد خَبرهم و انفضّ عنهم بعد أن جرّبو الحكم و فشلوا فيه ؟

أمّا ثالثة الأثافيّ فهو قول الدكتور حسن نافعة،في الجزيرة الفضائية يوم 19 يوليو، أن هناك واقعًا جديدًا في مصر اليوم و أنه على الجميع أن يرضى بهذا الأمر الواقع و يتعامل مع هذا الواقع الجديد!
و هذا الأمر غريب و محيّر إذْ كيف يسارع هذا الرجل في استساغة جريمة الانقلاب العسكريّ و تبريرها و تبرير آثارها البشعة و وصفها بالواقع الجديد ثم يطالب النّاس جميعًا أن يبلعوا ما بلع و أن يستسيغوا ما استساغ متناسيًا أن الأذواق كالألوان لا تقوم على التّجرع أو على التّحكم و القهر.
و إذا سلّمنا للدكتور نافعة بما يقول فلماذا لم يَر،و كأنه أُصيب بالعَشى اللّيليّ في رابعة النّهار، لماذا لم يَر هذا الواقع  الجديد الآخر الممتدّ في ربوع مصر كلّها ؟ و لماذا لم يَر هذه الحشود المتضامنة في رابعة العدويّة و في ميادين مصر كلّها التي خرجت،يوم الجمعة 19 يوليو، و هبّت هبّة واحدة في جمعة أسمتها جمعة كسر الانقلاب و تأييد الشّرعية و التنديد بالانقلاب العسكريّ و رفض نتائجه و آثاره و قد كان سيادته،في نفس اليوم و التّوقيت، ضيفًا على الجزيرة الفضائية إلى  جانب الأستاذ وائل قنديل في نشرة الظهيرة الإخباريّة ؟

و لا يقف التّهافت و السّقوط لدى الدكتور حسن نافعة عند حدّ بل إن هذا الأمر لَيحلو له فيستمرئه و لا يجد حرجًا حين يقول بأنّ موجة الاعتقالات و المداهمات و ترهيب الآمنين و زوّار اللّيل و إرهاب البلطجية و إراقة الدّماء و الاعتداء على المتظاهرين السّلميّين و انتهاك الحرّيات و تكميم الأفواه و إغلاق الفضائيّات...كلّ أولئك يصفه الدكتور حسن نافعة الأستاذ الجامعيّ المحترم بالإجراءات الوقائيّة المؤقّتة التي تحفظ الأمن و السّلم  المدنيَّين و تضمن التّعامل الطبيعيّ مع الأوضاع الجديدة كما يسمّيها دون أن يذكر الانقلاب العسكريّ ببنت شفة!

هذه هي أزمة مثــقّـفي الانقلاب في مصر ما بعد يوم 3 يوليو 2013 المشؤوم و هذه هي حالهم و هذا هو منطقهم و هذه بعض مظاهر أزمتهم.و بعد هذا العرض الذي تقدّم  لا بدّ من إضافة و تذييل يزيل الشّكوك و يزيد هذا الأمر إضاءة و بيانًا.
إن الأمر الحاصل،اليوم، في مصر لا يتعلّق بحزب الحرية و العدالة البتَّة و لا يتعلّق بالرّئيس المنتخب محمد مرسي.إن مصر أكبر من الإخوان المسلمين و هي أكبر من كلّ الأحزاب المصريّة مجتمعة و أكبر من كلّ الرّؤساء و القادة و المسؤولين.
إن ما يجري ،اليوم، في مصر له علاقة بمستقبل ثورة 25 يناير 2011 العظيمة التي أطاحت بأكبر ديكتاتور أهان مصر إهانة كبرى حين قدّمها هديّة رخيصة لليهود الصّهاينة يعيثون فيها فسادًا.
إن ما يجري ،اليوم، في مصر له علاقة بمشروع وأد ثورة 25 يناير العظيمة و اغتيال روحها المتمرّد الجبّار و قمع مجموع قيم الحرية و الكرامة و العدالة و الإنسانية و المساواة التي أفرزتها.
إن ما يجري ،اليوم، في مصر له علاقة بمستقبل مصر و بدورها الرّياديّ في العالم ا لعربيّ الذي شاء العسكر الانقلابيّون أن يحوّلوه عن وجهته الحقيقيّة لتصبح مصر،كما كانت في العهد البائد، خادمة للأطماع الأمريكيّة في المنطقة و دمية أو عميلة للسّياسة اليهودية الصّهيونية التي تحرق الأخضر و اليابس في أرض الإسراء و المعراج و تقتل الرّضع و الأطفال و النّساء و الشيوخ في فلسطين المحتلّة.
إنّ ما يجري ،اليوم، في مصر له علاقة بهذا العهد الجديد الذي وُلد من رحم ثورة 25 يناير و له علاقة بهذا المسار  الدّيمقراطيّ الوليد الذي بدأ ينتعش في أرض الكنانة و تكالبت عليه الأحقاد و العداوات في الدّاخل و الخارج.
إنّ ما يجري ،اليوم، في مصر له علاقة بتضحيات و آمال الملايين من المصريّين،و من ورائهم ملايين أخرى من الشّعوب العربية ،التي تأمل أن تُستأصل أورام الاستبداد و الظلم و القهر و التّبعية و الإذلال التي تستوطن جسم العالم العربي حتّى أصبحت وَصفه الكبير و استحالت دليلاً عليه و جزءًا من هويّته.
إنّ ما يجري ،اليوم، في مصر له علاقة بإنسانيّة المواطن العربيّ و كرامته التي سُلبها منذ زمن بعيد و هو يحاول جاهدًا لاستعادتها و تحصينها.إنّ ما يجري،اليوم، في مصر له علاقة بحقّ هذا الإنسان العربيّ أن يعيش سيّدًا كريمًا فوق أرضه آمنًا في وطنه مستقلاًّ في قراره حرًّا في مواقفه لا تستعبده الإملاءات الخارجيّة و لا تفتّ في عضده المخاوف و التّهديدات    و لا تحتويه الإغراءات و الضّغوط و المناقصات.
هذه هي حقيقة ما يجري في مصر اليوم و ما خَفي أدهى و أكبر.و قد اختار كلّ فريق جهته و لكن يبدو أنّ  مثقّفي الخدمات عمومًا و مثقّفي الانقلاب في مصر خصوصًا كانوا أسرع النّاس في الإعلان عن مواقفهم و أسرع النّاس في اختيار مواقعهم.فليهنئوا،إذنْ، بهذه المواقف و لْيسعدوا بهذه المواقع و لْيعلموا أنّ الزّبد يذهب جفاءً و أنّ ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/