الأحد، 7 ديسمبر 2014

في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

يحتفل العالم،هذه الأسبوع، بالذكرى السادسة و الستّين لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كل عام.و لقد كان جديرًا بهذا العالم الممزّق و بشعوب الأرض المضطهدة أنْ تحتفل بجنازة هذا الإعلان العالميّ الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان.
 و الملاحظ أنّ هذا الإعلان العالميّ لم يَعد ذا جاذبيّة و بريق بل قد فَقَد،لدَى شعوب الأرض، كثيرًا من ماهيّته و معناه.و سبب هذا التّحول و العزوف أنّ هذا الإعلان قد شُوّه محيّاه و أُفرغ من مضمونه و محتواه حين أصبح شعارًا يرفعه القتلة و المجرمون لتبرير ما يسفكون من دماء و ما يهدمون من بناء و ما يخلّفون وراءهم من دموع و أحزان و دمار و أشلاء.

و إذا ذهبنا،اليوم، نبحث عن مِصداق لهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد أكثر من ستّين سنة من صدوره و نتحقّق من فاعليّته و جدواه و نتأكّد من رصيده في حياة الناس و مغزاه فماذا نحن واجدون ؟ لا شيء.أو فلنقل إنّا واجدون كلّ شيء مؤلم محزن و مدمّر و مميت.
لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتّع بحقّ الفيتو في مجلس الأمن و دول أخرى تسير في ركبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعًا باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و تحقيق بنوده جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس و في الأجيال المتعاقبة و في البيئة و في كلّ مكان.
إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالمية و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم و أقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948.و كأنّ ميلاد الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مبتغاه.
و قد شهدت الأرض،منذ صدور هذا الإعلان مظالم كبيرة و جرائم كبرى لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلاً.و اتخذت بنود هذا الإعلان العالميّ ستارًا لتغطية جرائم الحضارة الغربية بشقّيها الأمريكي و الأروبي.

و بعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا تزال بنوده،رغم دلالاتها الواضحة و القطعيّة، تُفسّر تفسيرات عديدة متحيِّزة و تُشرح شروحًا مختلفة تبعًا لأهواء الدول الكبرى و مصالحها المختلفة و أهدافها الاستعمارية و هي لا تتورّع،أبدًا، عن سفك الدّماء و إقامة المجازر و لا تتردّد عن عمليّات الهدم و التّدمير و استعمال الأسلحة المحرّمة كما حصل في فلسطين و العراق و أفغانستان و غيرها تحقيقًا لهذه المصالح و مساوقةً لهذه الأهداف.
    
فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟
و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق و يحصل في غزّة و في فلسطين.
و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في الصّومال كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.
و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارهم و يسلبهم أسباب الرزق و يحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما يحدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.
و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يحزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا و دماء الضّعفاء قاطبةً،في العالم، و المنبوذين الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَنطق و يصرخ و يَعد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تهان الأقليّات المسيحية أو الأقليّات الأخرى التي تخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.
و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية،التي يتفنّن فيه الغربيّون، و الاعتداءات الجنسية الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.
و بعد هذا السّجل الأسود في تاريخ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يأتي المنهزمون في الوطن العربي و أشباه المثقّفين و الببّغاوات للمطالبة بتحكيم بُنود هذا الإعلان العالميّ في حياتنا كأنّه وَحي يُوحى و تدريسه لأبنائنا و شرحه و فهمه بالطريقة الأمريكية و الأروبية لا غير.
إنّ الجرائم التي ارتكبها الغرب باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و باسم قيم الحرية و العدالة لا تُعدّ و لا تحصى.فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربيّة في الفيتنام و أفغانستان و في باكستان و الصّومال و في اليمن و العراق و قبل ذلك في هيروشيما و ناغزاكي في اليابان...و هذه الجرائم قد أتَت على الأخضر و اليابس     و لا يزال النّاس،إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم و عقابيلها و دمارها.
أمّا فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتلّ الصّدارة في تاريخها الاستعماري الأسود.و لا تزال فرنسا إلى اليوم دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت و تصنع الدّمار و تذبح الشّعوب و تزهق الأرواح و تمارس الإرهاب الدّولي باسم حقوق الإنسان و قيم الحرية و العدالة و المساواة تحقيقًا للسيطرة و التّملك و الإذلال.
و آخر فصول جرائمها يجري،هذه الأيام، في مالي و في إفريقيا الوسطى حين تدخّلت لتجريد المسلمين المطارَدين من أسلحتهم و وقفت تتلذّذ بمشاهد الحرق و التّنكيل و القتل و الذّبح بالسّكاكين و السّواطير و الاعتداء على البيوت و الممتلكات و التّهجير القَسريّ المنظّم الذي تمارسه عصابات القتل المسيحيّة.
و قد بلغ القبح و الافتراء بفرنسا،بلد الحريات و حقوق الإنسان، حدًّا لا يُطاق فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فيفري/شباط سنة 2005 الذي يمجّد الاستعمار و يُشيد بمنافعه و بمزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له !

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ببنوده الثّلاثين التي احتواها كان ممكنًا أنْ يحقّق بعض العدالة و الحرية و بعض الكرامة و المساواة و يقضي على بؤر التّوتر في العالم و يخفّف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الضّعفاء و المحرومين فوق هذه الأرض.
و لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق لأنّ الكبار المنتصرين،بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و سطّروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية و العدالة و الحقّ و المساواة و الكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم  أو أنْ تسود.و كيف يفعلون ذلك و هم أوّل من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة و أوّل من يدوسها و يُهينها و أوّل من يقتلها و يُفنيها ؟

و الذي يُقضَى منه العجب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانية الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربية و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربية فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تعنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القهر و الإرهاب و الاستئصال.
و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك     الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يجنّ جُنونهم،كما يقول المؤرّخون، فيحرقون و يدمّرون   و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.
       
إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبةً في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.
إنّ المتأمّل في الأحداث المعاصرة لا يفوته ملاحظة أنّ الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه،دائمًا، الرّغبة الأمريكية و الأروبية في استعمار الدول و إذلال شعوبها و كثيرًا ما تتّخذ مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وسيلةً لغزو مجتمعات العالم الثالث و تفكيكها أو تغيير نمط الحياة فيها و أساليب التفكير.
و حتى يظهر التّلاعب جليًّا و تكتمل الصورة القاتمة و المعاني المشوَّهة التي آل إليها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يتعيّن الاستشهاد،في هذا المقام، بكلمة أحد سفّاحي العصر،و هو جورج بوش الابن، قالها في مؤتمر حوار الأديان و الحضارات المنعقد في مقرّ الأمم المتحدة،في نيويورك، في الأسبوع الثاني من نوفمبر سنة 2008 حضرته 60 دولة.فقد قال هذا الرجل وقاحةً بأنّ حروبه التي خاضها في العراق و أفغانستان و كوسوفو كان دافعها هو حماية الحقوق الدينية !

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يكاد يكون صيغة من المكر و الخداع وضعها الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإذلال الشعوب الضّعيفة و إحكام السّيطرة عليها بالضغوط المختلفة و الإملاءات و استعمال القوة و الإرهاب.
هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد ستّ و ستّين سنة من صدوره و هذا هو التّلاعب الذي لحقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخراب و الدّمار الذي أُنجز تحت لوائه.
و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد و أنْ تنتفض شعوب الأرض المظلومة على هذا الواقع الأليم الذي تعاني نتائجه المدمّرة فتستعيد زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان سيظلّ مبرّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال و وسيلة للقهر و الإذلال    و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضرّها أكبر من نفعها.

الخميس، 2 أكتوبر 2014

اسطنبول..



تمتاز مدينة اسطنبول،بحسب موقعها الجغرافي، بصفتين اثنتين: انتماؤها إلى قارّة أروبّا و انتماؤها إلى قارّة آسيا.و هذا الانتماء المزدوج الذي تحظى به هذه المدينة دون سائر مدن العالم مضافًا إليه عامل الثقافة و التاريخ إذْ كانت مركزًا لحضارات مختلفة...كلّ أولئك و ما ينشأ عنه من آثار دائمة و تأثير متواصل و امتزاج للأفكار و القيم و تزاوج للألوان و الأذواق هو الذي جعل اسطنبول مدينة هي نسيجُ وَحدها و أهّلها لأنْ تصبح قبلة السّائحين من كلّ العالم و وجهة الكتّاب و الباحثين و مقصد أُناس كثيرين يطلبون فيها سُبل العيش و قضاء المآرب و تحقيق الرّغبات.

و كلّ الذين يزورون اسطنبول و يتقلّبون في أحضانها يُجمعون أنّ لهذه المدينة سحرًا خفيًّا لا يُقاوَم يَشعرون به يَملكهم فيَستنيمون له و لا يجدون منه خَلاصًا.
فمِن أين اكتسبت اسطنبول هذا السّحر الذي ما انفكّ يلازمها و لا يَسلم منه زائرها ؟ و مِن أين اكتسبت هذه المدينة جاذبيّتها التي ما فتِئ يستنيم لها نزيلها ؟
قد يقول قائل إنّ السّبب هو موقعها الجغرافي الذي سبقت الإشارة إليه و انتماؤها إلى قارّتين اثنتَين و هو وصف لا يشاركها فيه مدينة أخرى في العالم.و هذا الجواب،لا شكّ، قد تضمّن رأيًا صحيحًا و لكنه يظلّ،في ظنّي، جوابًا ناقصًا إذا لم يَكُن مشفوعًا بتتمّة تزيده إضاءة و تَجلوه.

و يَقوَى الاعتقاد،عندي، أنّ هذا السّبب إنّما يَعود إلى تاريخ اسطنبول العريق و ما تعاقب عليها من حضارات شتّى و أقوام مختلفين و ما نشأ عن هذا التّعاقب و الاختلاف من نسيج و مزيج و تزاوج و انصهار و مثاقفة و انبهار و ما خلّفه هذا و ذاك من أفكار و إيحاءات و قيم و ثقافات و خاصّة ما علِق بها أو ما عَلقته من فترة الحكم العثمانيّ الطّويل و ما أصبح لصيقًا بها و جزءًا من هويّتها منذ أن اتّخذها السّلاطين العثمانيّون عاصمة لهم مدّة تزيد على أربعة قرون فبسطوا سيطرتهم و نفوذهم على مناطق كثيرة في أروبّا و آسيا و العالم العربيّ.
و كان نتيجة هذا الحكم الذي امتدّ قرونًا بأحداثه الكبرى و تقلّباته الجُلَّى أنْ أصبح العالم كلّه موجودًا في اسطنبول أيْ في الأستانة مركز الخلافة الإسلامية و مدينة السّلاطين الغالبين يتوافد عليها صباحَ مساء و في كلّ لحظة و حين في السّراء و الضّراء و في أيّام السّلم و حين الحرب أقوام من كلّ الأمصار و الأصقاع.

فالموقع الجغرافيّ المتميّز،إذنْ، و العامل التّاريخي الذي يبدأ بمئات السّنين قبل الميلاد و يمتدّ إلى الفترتَين البيزنطية و العثمانية و ما خلّفه هذا الحضور الطّويل من قِيم و أفكار و إيحاءات و أسرار و رسوم و بصمات و أذواق و ألوان و عواطف و أحاسيس و عِظم الآثار الشّاخصة و ضخامة الإنجازات الماثلة...
كلّ أولئك،إذنْ، هو الذي جعل اسطنبول مدينة مفتوحة على العالم تبسط يَديها،صباحَ مساء، تستقبل الوافدين إليها من كلّ حَدب و صَوب فتحتضنهم فيُؤخذون بسحرها و تأثيرها.
و كلّ أولئك،أيضًا، قد يكون أحد أسباب هذا السّحر الذي تتمتّع به اسطنبول و قد يفسّر هذه الجاذبيّة التي تلازمها فيقع تحت تأثيرها كلّ زائر و لا يَفتأ يذكرها كلّ مغادر.
و لعلّ هذه الجاذبيّة و ذلك السّحر هو الذي سَكن نابليون فَمَلكه فأنطقه فقال: لو كان العالم كلّه دولة واحدة لكانت اسطنبول عاصمتها.

و لولا عامل التّاريخ البعيد الذي تتشابك فيه الألوان و الأذواق و تتعانق الثّقافات و الحضارات و تمتزج الولاءات و الانتماءات و تذوب فيه الحدود و القيود و تختلط الهواجس و الإيحاءات و ينتعش الزّمان و المكان...و لولا هذا الحضور العثمانيّ الشّاخص ذو الإضافات النّوعيّة البارزة الذي صَبغ هذه المدينة بصبغته و خلّدها بعظم المعالم و الإنجازات و جعلها مدينة مفتوحة على الكون و العالم...
لولا هذا العامل التّاريخي،إذنْ، و لولا ذلك الحضور الطّويل المهيمن ما كانت مدينة اسطنبول ذات الانتماءين لتحظى بهذه العناية و الاهتمام و ما كانت لتفوز بهذه الجاذبيّة و السّحر.

إنّ اسطنبول مدينة عالميّة تستحقّ عناء الزّيارة و تكاليف التّنقل للوقوف على معالمها الكبرى و آثارها القائمة كحجر المليون The million stone الذي  أُنشئ في القرن الرّابع الميلادي و كان مكان الانطلاق لحساب المسافات لجميع الطّرق المؤدّية إلى مدن الإمبراطورية البيزنطيّة و مسجد السّلطان أحمد الذي بُني ما بين عامي 1609- 1616 أو ما يعرف،عند الغربيّين بالمسجد الأزرق و آيا صوفيا التي تقابله فتؤانسه و تتلقَّى،يوميًّا، صَداه و نَجواه و هي أشهر كنيسة في العهد البيزنطي و أوّل جامع يصلّي فيه السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية سنة 1453 و قد حُوّلت إلى متحف منذ 1935 في عهد أتاتورك.
و كذلك يستحقّ الزّيارةَ و الطّواف مسجد سليمان القانونيّ عاشر السلاطين العثمانيين الذي بناه أكبر المعماريّين العثمانيّين في التاريخ الإسلامي و هو سنان باشا ما بين سنتي 1550-1557.
و يُماثله في الأهمّية و الشّأن قصر توبكابي العظيم،المعروف أيضًا باسم الباب العالي، الذي بدأ بناؤه سنة 1459 و سكنه خمسة و عشرون سلطانًا عثمانيًّا و كان،قُرابة أربعة قرون ،مصدر القرار و مركز الحكم الذي تُصنع فيه سياسة الإمبراطورية العثمانيّة و مقام الهَيبة و قبلة القاصدين.و قد أصبح،اليوم، متحفًا تُعرض فيه آثار العثمانيّين و الآثار المقدّسة للنبيّ صلّى الله عليه و سلّم.

و كذلك تستهوي الزّائر جزرُ الأمراء في بحر مرمرة و خاصّة المأهولة بالسّكان كجزيرة بويوكادا الهادئة التي يقصدها غالبيّة السّائحين لتوفّرها على كلّ المرافق العامّة الضّروريّة و لخلوّها،كذلك، من حركة السّيارات.    و لا تتمّ زيارة اسطنبول دون التّعريج على أسواقها و أحيائها التّاريخية كالسّوق المصريّ للتّوابل و العطور التي كانت تأتي من الهند عبر الموانئ المصريّة.و قد بدأ بناؤه سنة 1597 و استمرّ إلى غاية 1664 و البازار الكبير الذي بني في عهد محمد الفاتح و يشتمل على أكثر من 60 شارعًا و 400 دكّان و مساجد.
أمّا حيّ أيّوب ففيه مَدفن الصحابيّ الجليل أبو أيوب الأنصاري و مسجده و هو أوّل مسجد بناه العثمانيّون في اسطنبول سنة 1458.و قد أصبح الحيّ و كلّ ما حوله منطقة سياحيّة تمتلئ حركةً و تجارةً يقصدها أهل البلد و الأجانب على السّواء.
أمّا ميدان تقسيم،و أصل التّسمية يعود إلى شبكة قنوات المياه التي تتجمّع في هذا المكان و كانت تتولَّى تقسيم أو توزيع المياه على أحياء المدينة، فلا تكتمل الزيارة دون الوصول إليه و التّجول في شارع الاستقلال المتفرّع عنه و طوله بضعة كيلومترات تنتشر على جانبيه المحلاّت التجارية المختلفة و يسلكه،يوميًّا، الآلاف من النّاس أتراكًا و سائحين.
و على العموم فالمدينة تزخر بالشّواهد و الآثار و خاصّة ما يعود منها إلى فترة العثمانيّين: فآثارهم الشّامخة ذات القوّة و المنعة قائمة شاخصة تصاحبك في كلّ خطوة و سَير و تصادفك عند كلّ زاوية و شارع       و تستوقفك في كلّ صعود و منحدر.
  
إنّ الذي يَلفت الانتباه،في اسطنبول، هو هذا الامتزاج الحاصل بين الأذواق و الألوان و الرّسوم و الشِّيات و الأهواء و الميولات و القيم و الأفكار و الأساليب و الاتّجاهات و الرّوائح و العطور و الأطعمة و الأطباق...و كلّ أولئك يتخلّله صوت الآذان النّديّ الذي يخترق الفضاء بين الحين و الحين فيضيف بُعدًا آخر و جمالاً آخر إلى هذه المدينة السّاحرة التي تعرّضت لتأثيرات كبرى منذ ألفَي سنة أو تزيد.

و لكنّ الزّائر لاسطنبول،بعد الامتزاج بمناخها و التّقلب في أحضانها و الاختلاط بناسها و سكّانها، يكتشف أنّ اسطنبول ثقافة أخرى لها طعمها الخاصّ و لونها المتميّز و رؤيا للعالم مختلفة صنعتها تأثيرات الماضي البعيد و صقلتها الأحداث الكبرى المتعاقبة على هذه المدينة التّاريخية إلى يومنا هذا.
و الحقّ أنّ سحر اسطنبول لا يشعر به الزّائر في نهاية الرّحلة أو في وسطها بل إنه لسحر يتجدّد في كلّ يوم جديد و كأنه يتعاظم بين اللّحظة و تِلْوها فيتمكّن من زائرها فيستجيب له و يرتاح.
إنّ اسطنبول هي المدينة ذات الانتماءين و هي مدينة عالميّة تتميّز بالعراقة و التّنوع و هي بأوصافها جميعًا تستحقّ عناء الزّيارة و تكاليف التّنقل.و هذه هي اسطنبول التي زرتها: ففي أحضانها أحببتها و بعيدًا عنها أذكرها و في هذه السّطور أكتبها.

الأحد، 13 أبريل 2014

الانتخابات الرئاسية في الجزائر: إنتاج الفشل مرة أخرى











الانتخابات الرئاسيّة في الجزائر يوم 17 أفريل القادم،كما يراها مجموع المراقبين، ليست سوى مسرحيّة هزليّة أخرى من إخراج بوتفليقة الرّئيس المريض المترشّح لولاية رابعة و عصابة المغامرين المحيطين به الذين يقودون البلد إلى مزيد من الأزمة و الانسداد.و قد أُريد للجزائريّين،مُكرهين، أن يصفّقوا لهذه المسرحيّة الهزليّة رغم التّفاهة التي تعتريها و رغم الشّعوذة السّياسية التي تصاحب الحملة الانتخابية.

إن العمل السياسي الجاد،و من ضمنه مناسبة الانتخابات، يقتضي المشاركة و الظهور و يستدعي القرب و الحضور و يتطلب من الذين يمارسونه فهما صائبا لأوضاع الناس و نصيبا ظاهرا من التواضع لهم و قليلا من الاحترام لعقولهم و شيئا من التواطؤ معهم و مقاسمتهم بعض أفكارهم و التّجاوب مع عواطفهم مع إبداء بعض الأهمية و الاعتبار لمجموع الشعب و مختلف المواطنين.
و لكن بوتفليقة الرّئيس المريض و عصابة المغامرين من حوله الذين يصرون على احتقار الجزائريين و سب ذكائهم و تسفيه أفكارهم و مصادرة إرادتهم و التحكم في مصيرهم و تسطير مستقبلهم بل إنهم لَيدّعون،صراحة أو وقاحة، الاطلاع على نياتهم و معرفة دخائلهم و الإحاطة بهواجسهم و فهم ميولاتهم   و تحديد اختياراتهم...
هذه العصابة التي لا يجمعها مبدأ أو فكر و لا يؤلّف بينها ميل أو انتماء سوى الحرص على الغنائم و التشبث بالمواقع و الفوز بالامتيازات تمارس كل أنواع الاستبداد و القهر و صنوف الإقصاء و التهميش لتفرض إرادتها الأحادية على الجزائريّين من خلال مسرحية هزلية ممجوجة تسمى الانتخابات الرئاسية يكون فيها الرّئيس المريض مرشَّحًا و غائبًا و مغيَّبًا عن الحملة الانتخابية ثم يُراد له أن يفوز بولاية رابعة!
تصر هذه العصابة،إذنْ، إصرارا شديدا على أن يكون بوتفليقة الذي أنهكه المرض فأقعده و سلبه حركته فأعجزه و أفقده القدرة على الاستيعاب و الكلام و منعه من المتابعة و الإلمام هو الرّئيس الفائز في انتخابات 17 أفريل القادم.
إن رجلا هذه حاله غير قادر على القيام على أمر نفسه فكيف يراد له أن يكون قيِّمًا على أمور النّاس.إن رجلا هذه أوصافه غير قادر على تولّي مسؤولية أسرة واحدة فكيف يراد له أن يكون مسؤولاً على بلد كبير كالجزائر ذي الطّاقات الحيّة و التّحديات الكبرى ؟! 

و قد بلغت الوقاحة مبلغها لدَى هؤلاء المغامرين ذَوي المصالح و المواقع الذين يقودون الجزائر إلى المجهول حين يصرّحون بأنّ اختيارهم،و فرضهم، لهذا الرجل المريض رئيسًا قادمًا للجزائر يعود سببه لكَون بوتفليقة صاحب الإنجازات الكبيرة هو وحده،أو هو سبحانه، حامي الجزائر من أعدائها المتربّصين بها في الدّاخل و الخارج و هو،أيضًا، ماضي الجزائر و هو حاضرها و مستقبلها!
إن هذا الهُراء الكبير الذي تقوم بتسوّيقه عصابة المغامرين التي تُحيط ببوتفليقة الرئيس المريض و هذا الإفك المُبين الذي يتولَّى كِبرَه الإعلامُ الموالي و أدعياء الوطنيّة و أشباه السّياسيين و مثقّفو الخدمات و أنصاف المتعلّمين و التّدين المغشوش و أصحاب المصالح و ذوو المواقع و طلاّب الامتيازات...
إن هذا الهُراء و الإفك و الذين من ورائه هو جزء كبير من مشكلة الجزائر المعاصرة التي تتمرّغ في السّلبية و الرّداءة و هو سبب من أسباب تأزيم الوضع و تعقيد هذه المشكلة و ليس وسيلة من وسائل فهمها أو حلّها.

لقد جاء السيد عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999 و علّق الجزائريّون آمالاً كبرى على مجيئه.و الذي جعل هذه القلوب تهفو إليه و تحتضنه هو أنه جاء بخطاب جديد كان منتظرًا خلاصته تحقيق سيادة القانون و شيوع العدالة و إعادة بناء هياكل الدولة المترهّلة و إشراك أجيال الاستقلال ذات المعرفة و الوعي في تسيير أمور البلاد و إعادة بناء الجزائر و وضعها في الطريق الصحيح لتستقبل بقوّة و جدارة الألفية الثالثة.
و لكنّ بعد خمس عشرة سنة من الحكم و بعد ثلاث ولايات متتاليات يكتشف الجزائريّون أن ما تحقّق لا يكاد يُبين و أنّ شيئًا لم يتغير و أن أوضاع الجزائر تسير،كعادتها، نحو التّأزّم و التوتّر و الكساد.
أمّا مظاهر الانتكاسة التي حصلت فهي لا تخفى و لا تكاد تُحصى كظاهرة الفساد المستشري في قمّة هرم السّلطة و عند أدعياء المسؤولية و النّزاهة و جرأة المسؤولين و عدم محاسبتهم و انحطاط مستويات التعليم و ضحالة الأفكار و فَقر الخيال و تَغييب الإبداع و اضمحلال الشّخصية الإنسانيّة و شحوبها و غياب التّطوير و التّنمية و تشويه قيمة العمل و الإثراء الفاحش بأيّ ثمن و وجود مستويَين لتطبيق العدالة و القانون و انتشار الرّشوة التي أصبحت رياضة وطنية و تبذير المال العام و النَّهب و السَّلب لمقدَّرات الدّولة،كفضيحة سوناطراك و غيرها، و مسلسل السّرقات الذي لا ينتهي و ظاهرة الاختلاسات في معظم المؤسسات و شيوع المحاباة في كلّ القطاعات بدون استثناء و نسبة البطالة التي تتصاعد و غلاء المعيشة و تنامي ظاهرة الفقر بزوال الطبقة الوسطى و انتشار المخدّرات و الآفات الاجتماعية...

و الذي يُقضَى منه العجب أن البضاعة الوحيدة الرائجة،اليوم، في الجزائر و قد زادت،في عهد بوتفليقة، انتعاشًا هي الرداءة و التعفن.الرداءة في الفكر و الأداء.و الرداءة في السلوك السياسي و السلوك الاقتصادي.و الرداءة في السلوك العلمي و الثقافي.و الرداءة في كل  سلوك و خطوة و في كل  رؤيا و مشروع.و هذه الرداءة السّارية في المجتمع و الطّاغية في كلّ مكان يُخفيها كثيرًا و لا يُظهرها بل يُزيّنها و يُحسّنها المال الموفور و البحبوحة الماليّة التي تَنعم بها الجزائر.

أمّا التعديل الدستوريّ الأخير الذي أقدم عليه الرئيس بوتفليقة في نوفمبر 2008 و مسّ المادة 74 من الدستور فقد كان القشّة التي قصمت ظهر البعير.و لم يستسغ،جموع الجزائريّين، هذا الاعتداء على الدستور بالطريقة التي تمّ بها فأصبح عدد الولايات الرئاسية مفتوحًا غير محدّد بعد أن كان دستور 1996 قد حدّدها باثنتين.
و الأمر الآخر الفاضح هو أن موعد التصويت على هذا التعديل الدستوريّ،في البرلمان، كان مسبوقًا بزيادات كبيرة في أجور النوّاب ممّا اعتبره الملاحظون رشوة مكشوفة أو ابتزاز علنيّ بتوفير الرّفاهية و لين العيش مقابل التصفيق و الطواعية و الإذعان.
و لقد حاولت جهات كثيرة متواطئة آنذاك،داخل النظام و خارجه، أنْ تبرّر هذا التعديل الدستوريّ و جعله هيِّنًا متقبَّلاً رافعين لواء الإنجازات التي تحقّقت.
و لكنّ الذي يَطويه هؤلاء المتواطئون و لا يُعلنونه أنّ هذه الإنجازات،و هي ليست محلّ اتّفاق عامّ، مهما كان حجمها و نوعها لا ينبغي أن تُخوّل أحدًا،و لو كان رئيس الدولة، الحقّ في أن يغيّر مادّة دستورية دون الرجوع إلى الشعب أو أن يضع قانونًا على قدّه يخدمه و يُواتيه.

و لقد كان طبيعيًّا،في ظلّ هذا التعديل الدستوريّ الأخير و ما سبقه من إجراءات، أنْ تعود الجزائر إلى الماضي و إلى عهد الأحادية الرّديء و الاستبداد الكالح باسم ضمان الأمن و السّلم و الاستقرار و أنْ يعيش الجزائريون،في الألفيّة الثّالثة، فترات أليمة من ماضيهم في حكم بوتفليقة الذي جاء بالوجوه القديمة من أصحابه القُدامى و أنْ تنتعش قيم السّلبية و الرّداءة و تتغلّب ظواهر التعفّن و الانسداد و أنْ يتحوّل العمل السياسيّ إلى لعبة بين الرئيس و الذين معه و بين مجموعة من الأجهزة و جماعات الضغط التي تتقاسم المصالح و تتوارث الغنائم و الامتيازات.

لقد اكتشف الجزائريون أن عبد العزيز بوتفليقة الذي وعدهم،منذ مجيئه، بإصلاحات كبيرة في حياتهم و في مقدّمتها إصلاح هياكل الدولة و التجديد في أساليب الحكم و تطبيق العدالة و سيادة القانون و فسح المجال أمام الأجيال الجديدة خاصّة أجيال الاستقلال من حاملي الشهادات العليا في كلّ العلوم و المعارف و الاختصاصات للمشاركة في خدمة البلاد و تنميتها...
اكتشف الجزائريون،إذنْ، أن هذا الرئيس يخدعهم و يَقلب لهم ظهر المجنّ و يُقدم على مثل هذه القرارات الفاضحة و التّعديلات و كأنه يفضّل للجزائر أن تعيش حبيسة الماضي بدلاً من أن يحتضنها أبناؤها من أجيال الاستقلال و الذين من بعدهم و يهيّئوا لها كلّ الظروف المواتية،وهم قادرون على ذلك، لتسكن المستقبل و تعيش الألفية الثالثة بعيدًا عن حساسيات النظام القديمة و حساباته البالية و صراعاته البائسة التي يدفع الجزائريّون ثمنها الباهظ منذ الاستقلال.
لقد اكتشف الجزائريون،بعد سنين قلائل، أن عبد العزيز بوتفليقة الذي وَعد لم يَفِ و أنه صدم شعور الكثيرين و خيّب ظنّهم حين قام بتعديل المادة 74 من الدستور لتضمن له،و لحاشيته، البقاء في الحكم أمدًا طويلاً و هو الذي كان يعيب على الذين من قبله أنهم وضعوا دساتير على قدّهم و تَبعًا لأهوائهم و بذلك يكون هذا الرّجل قد تمخّض فولد فَقرًا.

أمّا المعارضة السّياسية التي تأكل على موائد النظام و يسيل لُعابها أمام الغنائم و الحظوظ فهي تعارض هذا النظام لتوافقه و تهاجمه لتصفّق له و تنتقده لتتمنّى بقاءه و دوامه و هذه قمّة المعارضة السّياسية،في الجزائر، و أنضجها و أوعاها!
و لقد استطاع النطام القائم،في عهد بوتفليقة، كَسب ولاء كلّ المعارضة و تدُجِّينها بوسائل مختلفة كتدفّق الأموال و المنافع و توزيع الغنائم و الامتيازات حتى أصبح نشاطها الوحيد الذي تظهره و لا تُخفيه هو خدمة النظام و إطالة عمره لا محاولة إزالته أو إصلاحه و تقويمه.

هذه هي حال الجزائر بعد خمس عشرة سنة من حكم بوتفليقة.و هذه هي بعض مظاهر الأزمة و ظواهر التّخلف و السّلبية و الانسداد في بلد يملك كلّ عوامل الإقلاع و أسباب التّفوق و النّجاح.
إن الأمر،هنا، لا يتعلّق بشخصية السيد عبد العزيز بوتفليقة مع احترامنا له و لكنه يتعلّق بالجزائر و بمستقبلها و باحترام الدستور فيها و القوانين من قِبل الجميع و بضرورة تجديد الطاقات و إطلاق المبادرات و فسح المجال أمام أجيال الاستقلال لتشارك في عملية البناء و التشييد و بوجوب التجديد في الوسائل و الأفكار و الهياكل و الأساليب و إيجاد دينامكية حقيقية تجعل الجزائر قادرة على الخروج من النّفق المظلم و تحقيق القفزة النوعية المأمولة التي تضمن لها الإقلاع و استقبال الألفية الثالثة بذكاء و جدارة و اقتدار.

إن خلاصة ما يمكن التّأكيد عليه في هذا العرض شيئان اثنان أساسيّان و هما:
أوّلاً: أنّ الجزائر بلد حباه الله بكل الخيرات: فهو بلد كبير و ثروات كُبرى و أقاليم متنوعة و أراضي خصبة و طاقات بشرية متجدّدة و موقع استراتيجي...و إنّ المرء ليَعجب كيف تتظافر مجموعة من عوامل النّجاح و الامتياز لتساهم في نشأة هذه الأحوال الكالحة و الأوضاع المُزرية التي تحيا فيها الجزائر المعاصرة و تتكاتف لصناعة هذا المصير البائس الذي هي سائرة إليه.
ثانيًا: أنّ سبب الأزمة،في الجزائر، هو هذا النظام القائم،منذ الاستقلال، الذي لا ينتعش إلاّ في أجواء الرّداءة و التّعفن و هو يقود البلاد إلى مزيد من الكسور و الحطام و أنّ الجزائر في حاجة ماسة إلى تغيير النظام أو إسقاط هذا النظام المترهّل الذي عطّل طاقات الجزائريين و فرض عليهم أنْ يَحيَوا في حَمْأة البلادة   و الرّداءة و السّلبية و التّعفن و أنْ يعيشوا بعقلية سكان القرون الوسطى المظلمة في الألفيّة الثالثة. 

و لقد استطاعت الحلول الماليّة التي سارع إليها هذا النظام،منذ 2011، عقب الانتفاضات العربية التي شعر بوطأتها و خطورتها أن تهدّئ من التّوتر قليلاً و أن تمتصّ الغضب الشّعبي من سوء الأوضاع و تفاقمها. 
و لكنّ هذه الحلول الماليّة،التي كان يتبجَّح بنفعها و أهمّيتها رئيس الوزراء السّابق، ليست حلولاً مضمونة النّتائج دائمًا و ليست حلولاً ناجعة أبدًا لأنها تخفّف من الآلام و الأوجاع فقط و لا تعالج الدّاء أو تشفي من الأمراض.
ثمّ إنّ الوعي الشّعبي،في طبقاته المختلفة، الذي بلغ مستوًى من النّضج و التّمييز لم يَعد قادرًا على تجرّع قيم السّلبية و الرّداءة و التّعفن السّارية في المجتمع أو تقبّل سلوك هذا النّظام الذي لا يُحسن سوى سياسة واحدة هي سياسة الهروب إلى الأمام و تكميم الأفواه و شراء الذّمم و الولاءات و حرمان الجزائريّين من حقّهم الطّبيعي في التّعبير عن إرادتهم الحرّة في كلّ المناسبات.

إنّ الانتخابات السّابقة في الجزائر، كيفما كان نوعها، لم تحقق المأمول و لم تَضع البلد في الطّريق الصّحيح و لم تصنع أبدًا القطيعة مع سلوك الرداءة و ممارسات الاستبداد.و الانتخابات الرئاسية المقبلة بفصولها الهزليّة و مظاهر الشّعوذة السّياسية التي صاحبتها لن تغير في هذا الأمر شيئًا.
و إنّ العمل الجادّ الوحيد الذي تنتظره الجزائر و يكون كفيلاً بتحقيق نهضتها و ضمان إقلاعها هو تغيير هذا النظام الذي استنفد أغراضه كلّها و لم يَعد قادرًا على مسايرة التّطورات الكبرى الحاصلة في المجتمع الجزائري أو مواكبة أخرى تضاهيها في الكون و العالم. 




اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/