السبت، 18 ديسمبر 2021

اللّغة في العصر الحديث

تحتاج المسألة اللّغوية إلى وِقفة متأنّية و تحليل هادئ بسبب ما يَنشأ عن بحثها،في أحايين كثيرة، من عواطف جارفة و مواقف مُتكلِّسة و انفعالات.و يمكن القول،ابتداءً، بأنّ اللّغة ليست حياديّة دائمًا،أو هي ليست حياديّة تمامًا، لأنها تحمل قِيَمًا و تسوق أفكارًا و موازين.و إنه لَيصعُب،في أوضاع عديدة، فصل اللّغة،و هي وسيلة للتّواصل و التّعامل، عن» حَمولتها « أو عن » شُحْنتها «.و الذي أعطى اللّغة كلّ هذه الأهمّية و أحاطها بنوع من الهالة و التّقديس أنها لصيقة بالذّات و بسيادتها و بوجودها في العالم.و لعلّه،لهذا السّبب، قد ارتبطت ارتباطًا شديدًا بالسّياسة و المصالح الاقتصاديّة و استُعملت أداة فعّالة لتحقيق التّوسع و بسط مناطق النّفوذ.

و إنّ العصور الحديثة بما شهدته من صراع على مناطق النّفوذ و الأسواق و بما واكبها من صراعات على الهُويّة و إثبات الـذّات في وسط عالم لا يعترف إلاّ بمنطـق القـوّة و السّيطرة و القهر و الاستعلاء و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار خضوعه و طواعيّته و استسلامه...إنّ عصورًا هذا شأنُها و عالَمًا هذا حالُه قد أعطى اللّغة بُعْدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها سلاحًا خطيرًا يوازي في آثاره أسلحة الفتك و الدّمار الأخرى.و لم تَعُـد اللّغـة هـذه الوسيلـة الحيـاديّـة التي تحقّق تواصل النـّاس و تعارفهم و تنظـّم علاقاتهم و تقرّبهم بل أصبح لها شأن آخر و أيُّ شأن !

كلّ هذه الأوصاف،إذن، هي التي أعطت اللّغة بعدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها موضع عناية و اهتمام فائقَيْن.

و لكنّ اللّغة إذا كانت بهذه القيمة و هذا الوزن فما ينبغي أنْ يتحوّل النّشاط لها و الموقف تجاهها و العناية بها إلى نوع من الحساسيّة المَرَضِيّة و التّطرف الأعمى كاللذَين نلمسهما في مواقف بعض المؤسّسات الفرنسيّة الرّسمية كالفرنكفونيّة التي تمارس سياسة الإقصاء و التّهميش ضدّ اللّغات الأخرى لتحقيق السّيطرة المطلقة للّغة الفرنسيّة و ثقافتها خدمةً لأهداف سياسيّة و اقتصاديّة.

و قد أصبحت اللّغة الفرنسيّة أداة قهر و إذلال تتبنَّى كلّ وسائل المكر و الخبث و الاستئصال ضدّ لغات بعض الشّعوب و آدابها حين أعطتها الفرنكفونيّة مفهومًا سياسيًّا و طابعًا استعماريًّا » لا يَقبل واقع تطوّر الأشياء (...) من أجل استعمالها كوسيلة للتّفاوض من أجل إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه و منع التّغيير في بعض البلدان بل أكثر من ذلك استعمالها كوسيلة لمحاربة اللّغات الوطنيّة و اللّغات الأم...« كما يقول المهدي المنجرة في كتابه ( الحرب الحضاريّة الأولى ).

و ليس بخافٍ أنّ » مشكلة اللّغة « أو » مشكلة اللّغات « حاضرة في العلاقات الدّولية المعاصرة.فالصّراع،مثلاً، قائم بين الإنجليزيّة و الفرنسيّة و هو يتّخذ أشكالا مختلفة و مظاهر.و هذا الصّراع نفسه تشهده بعض هياكل الاتّحاد الأروبّي: فالفرنسيّة،كعادتها، تبغي الوجود المُهيمِن و السّيطرة على كلّ المجالس و الهيئات و اللّغات الأروبيّة الأخرى تطالب،هي كذلك، بحقّها في الوجود و الاستعلان.و هذا الصّراع اللّغوي ثابت قائم و لكنّ الدّول الكبرى تحرص على إخفائه و التّهوين من قيمته و شأنه لأنّ إظهاره و جلاءه قد يشجّع دول العالم الثالث الواقعة تحت وطأة الغرب الحضاريّة و يدفعها إلى المطالبة بحقوقها الثقافية و اللّغوية و هذا ما يخشاه الغرب و لا يسمح به لأنه إيذان بنهاية سيطرته و إعلام بزوال قيادته.

إنّ خلاصة ما يمكن التّأكيد عليه،في هذا المقام، أنّ أيَّ موقف من اللّغة و كلّ سياسة توضع لحمايتها و صيانتها ينبغي أنْ تَضع في الحُسبان أمرَين اثنين أساسيَّين: أوّلهما أنّ اللّغة مسألة سـيادة و إثبات للذّات و تأكيد للوجـود و أنّ العبث بها هـو عَبَث بهذه السّيادة و إفناء للذّات و إلغاء لهذا الوجود.و ثانيهما أنّ العناية باللّغة الأمّ و صيانتها لا يَعني تهميش اللّغات الأخرى أو ضرب الحصار حولها أو مطاردتها.و كلّ سلوك من هذا القَبيل هو من الحساسيّة الزّائدة و التّطرف الأعمى و هو،قبلُ، مُصادم لهذا التّنوع و الاختلاف اللّذَين يقوم عليهما الكون و العالم.  

و بمناسبة اليوم العالميّ للّغة العربيّة فإنّ أسئلة جادّة من هذا القَبيل تَقِفُنا: ما هو حال اللّغة العربيّة اليوم ؟ و لماذا استحالت لغةً ميِّتة أو منبوذة يَتجهَّمها أهلُها قبل الأباعد و الخصوم ؟ و ما الذي كتب للّغة العربية ذلك الذّيوع و الانتشار إبّان الحضارة العربيّة الإسلاميّة ؟ و ما الذي جعلها تحظى بذلك القَبول و تفوز بتلك المزيّة بين شعوب البلاد المفتوحة فتصبح لغتهم الأولى ؟ و ما هي الأسباب التي هيّأتها لهذه المكانة و حقّقت لها هذه الهيمنة و السّيادة فأصبحت لغة عالميّة تَستوطن القلوب و العقول قبل أن تسكن بطون الكتب و المجلّدات و صفحات المعاجم و الموسوعات ؟

هل هو الإسلام الذي نزلت كلمتُه الخاتمة متلبِّسةً بهذه اللّغة و ناطقة بها ؟ لا اعتقد ذلك لأنّ هذا الدِّين لا يزال قائمًا إلى اليوم و يَفوق عدد أتباعه المليار نسمة و ليس هناك لغة منفيّة بين أهليها أو مُهانة بين الأباعد كما هو حال اللّغة العربيّة التي تَلقى مِن مظاهر الازدراء و الإقصاء و التّهميش ما تَلقى.

هناك،إذن، أسباب أخرى و عوامل مختلفة هي التي صنعت للّغة العربية دعائم انتشارها و أُسس تفوّقها و هيّأتها لهذا الدّور العالميّ الكبير الذي قلَّما حَظيت به لغة أخرى مِن قبلُ و من بعدُ.و هذه الأسباب الموضوعيّة يَحسُن بنا اليوم،و نحن في الألفيّة الثالثة، أن نقف عندها وِقفة متأنّية لنبحثها و نحلّلها و،كذلك، لنختبرها و نَبْتليها علَّها تُكون عَونًا لنا في استبانة الأمور و وضوح الرّؤيا و تحقّق،لَدَينا، وعيًا جديدًا نتسلّح به لاستدراك ما فاتَنا من أمورنا في شؤون اللّغة العربيّة و في أمر نهضتها.

إنّ اللّغة انعكاس للمستوى الحضاريّ لأيّ أمّة من الأمم و مرتبطٌ وضعُها بوضع أهلها النّاطقين بها و هي،كذلك، صورة حقيقيّة لهذا المستوَى قوّةً و ضعفًا و صعودًا و هبوطًا.و أحبّ أنْ أُضيف،إمعانًا في الوضوح و البيان، أنّ صحّة اللّغة و اعتلالها و قوّتها و ضعفها و نموّها و ضمورها و إشعاعها و طموسها و جاذبيّتها و شحوبها و حيويّتها و ترهّلها و انتشارها و انكفاءها...كلّ أولئك إنّما هو ناشئ،ابتداءًا، ممّا يَلحق أهْلِيها النّاطقين بها من صحّة و اعتلال و قوّة و ضعف و حيويّة و ترهّل في حياتهم العامّة و الخاصّة و في جملة أحوالهم النّفسية و الفكريّة و العلميّة و الثّقافية و في مجموع أوضاعهم السّياسية و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة...

و إنّ هذا المستوى الحضاريّ التي سبقت الإشارة إليه هو الذي تَمثّل في نفوس العرب و المسلمين الفاتحين فجعلهم جديرين بالسّيادة و جديرين بقيادة البشريّة و جَعَل أفئدة من الناس تَهْوي إليهم و تَخْطُب وُدّهم و تُذعن لهم و تحتضن دينهم و تتبنّى لغتهم.و إنّ أظهر عنصر في الحضارة العربيّة بل إنّ أكبر تَجَلٍّ لهذا المستوى الحضاريّ الفائق إنّما هو تلك الرّوح التي غرسها الإسلام في نفوس العرب و المسلمين حين وَجد قلوبًا ملتهبة تحتضنه و عقولاً نيِّرة تستوعبه و نفوسًا كبارًا ترتقي،على الدّوام، إلى عظمته و مستواه.و بسبب هذه الرّوح المُهيمِنة الغالبة فإنّ شيئًا لم يقف في طريق هذه الحضارة أو يمنع سيرها حين طفِقت،في الأقاليم و الأراضين، تَندفع وتتوسّع و تتمدّد و تستطيل.

إنّ هذا المستوى الحضاريّ و مظاهر الغَلَب و ملامح القوّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة هي التي كتبت الذّيوع  و الانتشار للّغة العربيّة و أهّلتها لأنْ تكون اللّغة العالميّة ذات المكانة و الحضور و الهَيبة و الاعتبار.

و إذا كان ابن خلدون قد أثبت « أنّ المغلوب مُولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره و زيّه و نِحْلته و سائر أحواله و عوائده...» فإنّ هذا الأمر قد تحقّق بنصيب كبير للعرب الفاتحين إذْ كانت لهم الغلبة حضاريًّا ولم يكن مِن بُدٍّ،حينئذ، أنْ تخضع لهم شعوب الأرض قاطبةً خضوع التّلميذ للأستاذ فتتبنَّى دينهم و لغتهم و ثقافتهم و جلَّ شعارهم و أزيائهم و أذواقهم.          


الجمعة، 10 ديسمبر 2021

في ذكرى الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان

                                           

يحتفل العالم،هذه الأيام، بالذّكرى 73 لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كلّ عام.و إذا ذهبنا،اليوم، نبحث عن مِصداق لهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد 73 من صدوره و نتحقّق من فاعليّته و جدواه و نتأكّد من رصيده في حياة الناس و مغزاه فماذا نحن واجدون ؟ لا شيء.أو فَلنقُل إنّا واجدون كلّ شيء مؤلم محزن و مدمِّر و مُميت.

لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتّع بحقّ الفيتو في مجلس الأمن و دول أخرى تسير في ركبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعًا باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس و في الأجيال المتعاقبة و في البيئة و في كلّ مكان.و بعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا تزال بنوده،رغم دلالاتها الواضحة و القطعيّة، تُفسّر تفسيرات عديدة متحيِّزة و تُشرح شروحًا مُوجَّهَة تبعًا لأهواء الدول الكبرى و مصالحها المختلفة و أهدافها الاستعمارية.

و إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالميّة و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتَها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم و أقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948.و كأنّ ميلاد هذا الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مبتغاه.

فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟

و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق،سابقًا، و يحصل في غزّة،اليوم، و في فلسطين.

و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في كلّ مكان كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.

و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية التي يتفنّن فيه الغربيّون و الاعتداءات الجنسية الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.

و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارهم و مأواهم و يسلبهم أسباب الرزق و يحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما يحدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.

و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يحزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا و دماء الضّعفاء و المنبوذين قاطبةً،في العالم، الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَنطق و يصرخ و يَعد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تُهان الأقليّات المسيحيّة أو الأقليّات الأخرى التي تخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.

إنّ الجرائم التي ارتكبها الغرب باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و باسم قيم الحرّية و العدالة لا تُعدّ و لا تُحصى.فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربيّة في الفيتنام و أفغانستان و في باكستان و الصّومال و العراق و قبل ذلك في هيروشيما و ناغازاكي في اليابان...و هذه الجرائم قد أتَت على الأخضر و اليابس و لا يزال النّاس،إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم و عقابيلها و دمارها.أمّا فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتلّ الصّدارة في تاريخها الاستعماري الأسود.و لا تزال فرنسا إلى اليوم دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت و تصنع الدّمار،في إفريقيا و في كلّ مكان، و تمارس الإرهاب الدّولي باسم حقوق الإنسان و قيم الحرّية و العدالة و المساواة تحقيقًا للسيطرة و التّملك و الإذلال.و قد بلغ القبح و الافتراء بفرنسا،بلد الحرّيات، حدًّا لا يُطاق فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فيفري/شباط سنة 2005 الذي يمجّد الاستعمار الفرنسيّ و يُشيد بمنافعه و بمزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له !

و الذي يُقضَى منه العجب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانيّة الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربية و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربية فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تعنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القهر و الإرهاب و الاستئصال.و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا حاقدًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يَجِنّ جُنونهم،كما يقول المؤرّخون، فيحرقون و يدمّرون و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين يختلفون عنهم و لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبة في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.و إنّ المتأمّل في الأحداث المعاصرة لا يفوته ملاحظة أنّ الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه،دائمًا، الرّغبة الأمريكية و الأروبية في استعمار الدول و إذلال شعوبها و كثيرًا ما تتّخذ مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وسيلةً لغزو مجتمعات العالم الثالث و تفكيكها أو تغيير ثقافتها و نمط الحياة فيها و أساليب التفكير.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ببنوده الثّلاثين التي احتواها كان ممكنًا أنْ يحقّق بعض العدالة و الحرّية و بعض الكرامة و المساواة و يقضي على بؤر التّوتر في العالم و يخفّف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الضّعفاء و المحرومين فوق هذه الأرض.و لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق لأنّ الكبار المنتصرين،بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و سطّروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية و العدالة و الحقّ و المساواة و الكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم أو أنْ تسود.و كيف يفعلون ذلك و هم أوّل من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة و أوّل من يدوسها و يُهينها و أوّل من يقتلها و يُفنيها ؟

هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان بالضغوط المختلفة و الإملاءات و استعمال القوة و الإرهاب.و هذا هو واقع الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد 73 سنة من صدوره و هذا هو التّلاعب الذي لحقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخراب و الدّمار الذي أُنجز تحت لوائه.

و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد و أنْ يستعيد الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان فاعليّته و جدواه حين تستعيد شعوب الأرض المُحبّة للسّلام زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ هذا الإعلان العالميّ سيظلّ مبرِّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال و وسيلة للقهر و الإذلال و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضرُّها أكبر من نفعها.


اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/