الأحد، 7 ديسمبر 2014

في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

يحتفل العالم،هذه الأسبوع، بالذكرى السادسة و الستّين لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كل عام.و لقد كان جديرًا بهذا العالم الممزّق و بشعوب الأرض المضطهدة أنْ تحتفل بجنازة هذا الإعلان العالميّ الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان.
 و الملاحظ أنّ هذا الإعلان العالميّ لم يَعد ذا جاذبيّة و بريق بل قد فَقَد،لدَى شعوب الأرض، كثيرًا من ماهيّته و معناه.و سبب هذا التّحول و العزوف أنّ هذا الإعلان قد شُوّه محيّاه و أُفرغ من مضمونه و محتواه حين أصبح شعارًا يرفعه القتلة و المجرمون لتبرير ما يسفكون من دماء و ما يهدمون من بناء و ما يخلّفون وراءهم من دموع و أحزان و دمار و أشلاء.

و إذا ذهبنا،اليوم، نبحث عن مِصداق لهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد أكثر من ستّين سنة من صدوره و نتحقّق من فاعليّته و جدواه و نتأكّد من رصيده في حياة الناس و مغزاه فماذا نحن واجدون ؟ لا شيء.أو فلنقل إنّا واجدون كلّ شيء مؤلم محزن و مدمّر و مميت.
لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتّع بحقّ الفيتو في مجلس الأمن و دول أخرى تسير في ركبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعًا باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و تحقيق بنوده جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس و في الأجيال المتعاقبة و في البيئة و في كلّ مكان.
إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالمية و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم و أقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948.و كأنّ ميلاد الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مبتغاه.
و قد شهدت الأرض،منذ صدور هذا الإعلان مظالم كبيرة و جرائم كبرى لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلاً.و اتخذت بنود هذا الإعلان العالميّ ستارًا لتغطية جرائم الحضارة الغربية بشقّيها الأمريكي و الأروبي.

و بعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا تزال بنوده،رغم دلالاتها الواضحة و القطعيّة، تُفسّر تفسيرات عديدة متحيِّزة و تُشرح شروحًا مختلفة تبعًا لأهواء الدول الكبرى و مصالحها المختلفة و أهدافها الاستعمارية و هي لا تتورّع،أبدًا، عن سفك الدّماء و إقامة المجازر و لا تتردّد عن عمليّات الهدم و التّدمير و استعمال الأسلحة المحرّمة كما حصل في فلسطين و العراق و أفغانستان و غيرها تحقيقًا لهذه المصالح و مساوقةً لهذه الأهداف.
    
فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟
و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق و يحصل في غزّة و في فلسطين.
و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في الصّومال كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.
و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارهم و يسلبهم أسباب الرزق و يحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما يحدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.
و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يحزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا و دماء الضّعفاء قاطبةً،في العالم، و المنبوذين الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَنطق و يصرخ و يَعد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تهان الأقليّات المسيحية أو الأقليّات الأخرى التي تخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.
و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية،التي يتفنّن فيه الغربيّون، و الاعتداءات الجنسية الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.
و بعد هذا السّجل الأسود في تاريخ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يأتي المنهزمون في الوطن العربي و أشباه المثقّفين و الببّغاوات للمطالبة بتحكيم بُنود هذا الإعلان العالميّ في حياتنا كأنّه وَحي يُوحى و تدريسه لأبنائنا و شرحه و فهمه بالطريقة الأمريكية و الأروبية لا غير.
إنّ الجرائم التي ارتكبها الغرب باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و باسم قيم الحرية و العدالة لا تُعدّ و لا تحصى.فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربيّة في الفيتنام و أفغانستان و في باكستان و الصّومال و في اليمن و العراق و قبل ذلك في هيروشيما و ناغزاكي في اليابان...و هذه الجرائم قد أتَت على الأخضر و اليابس     و لا يزال النّاس،إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم و عقابيلها و دمارها.
أمّا فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتلّ الصّدارة في تاريخها الاستعماري الأسود.و لا تزال فرنسا إلى اليوم دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت و تصنع الدّمار و تذبح الشّعوب و تزهق الأرواح و تمارس الإرهاب الدّولي باسم حقوق الإنسان و قيم الحرية و العدالة و المساواة تحقيقًا للسيطرة و التّملك و الإذلال.
و آخر فصول جرائمها يجري،هذه الأيام، في مالي و في إفريقيا الوسطى حين تدخّلت لتجريد المسلمين المطارَدين من أسلحتهم و وقفت تتلذّذ بمشاهد الحرق و التّنكيل و القتل و الذّبح بالسّكاكين و السّواطير و الاعتداء على البيوت و الممتلكات و التّهجير القَسريّ المنظّم الذي تمارسه عصابات القتل المسيحيّة.
و قد بلغ القبح و الافتراء بفرنسا،بلد الحريات و حقوق الإنسان، حدًّا لا يُطاق فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فيفري/شباط سنة 2005 الذي يمجّد الاستعمار و يُشيد بمنافعه و بمزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له !

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ببنوده الثّلاثين التي احتواها كان ممكنًا أنْ يحقّق بعض العدالة و الحرية و بعض الكرامة و المساواة و يقضي على بؤر التّوتر في العالم و يخفّف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الضّعفاء و المحرومين فوق هذه الأرض.
و لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق لأنّ الكبار المنتصرين،بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و سطّروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية و العدالة و الحقّ و المساواة و الكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم  أو أنْ تسود.و كيف يفعلون ذلك و هم أوّل من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة و أوّل من يدوسها و يُهينها و أوّل من يقتلها و يُفنيها ؟

و الذي يُقضَى منه العجب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانية الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربية و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربية فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تعنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القهر و الإرهاب و الاستئصال.
و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك     الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يجنّ جُنونهم،كما يقول المؤرّخون، فيحرقون و يدمّرون   و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.
       
إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبةً في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.
إنّ المتأمّل في الأحداث المعاصرة لا يفوته ملاحظة أنّ الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه،دائمًا، الرّغبة الأمريكية و الأروبية في استعمار الدول و إذلال شعوبها و كثيرًا ما تتّخذ مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وسيلةً لغزو مجتمعات العالم الثالث و تفكيكها أو تغيير نمط الحياة فيها و أساليب التفكير.
و حتى يظهر التّلاعب جليًّا و تكتمل الصورة القاتمة و المعاني المشوَّهة التي آل إليها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يتعيّن الاستشهاد،في هذا المقام، بكلمة أحد سفّاحي العصر،و هو جورج بوش الابن، قالها في مؤتمر حوار الأديان و الحضارات المنعقد في مقرّ الأمم المتحدة،في نيويورك، في الأسبوع الثاني من نوفمبر سنة 2008 حضرته 60 دولة.فقد قال هذا الرجل وقاحةً بأنّ حروبه التي خاضها في العراق و أفغانستان و كوسوفو كان دافعها هو حماية الحقوق الدينية !

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يكاد يكون صيغة من المكر و الخداع وضعها الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإذلال الشعوب الضّعيفة و إحكام السّيطرة عليها بالضغوط المختلفة و الإملاءات و استعمال القوة و الإرهاب.
هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد ستّ و ستّين سنة من صدوره و هذا هو التّلاعب الذي لحقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخراب و الدّمار الذي أُنجز تحت لوائه.
و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد و أنْ تنتفض شعوب الأرض المظلومة على هذا الواقع الأليم الذي تعاني نتائجه المدمّرة فتستعيد زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان سيظلّ مبرّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال و وسيلة للقهر و الإذلال    و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضرّها أكبر من نفعها.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/