لقد شاءت الأقدار أن تتزامن الحرب الصّهيونية على غزّة،هذه
الأيّام، و الاعتداءات على الأقصى و على سكّان القدس الفلسطينيّين مع حدثَين
كبيرَين حوّلا العالم العربيّ إلى مناطق قلقة و ساحات كبرى تَعيث فيها فسادًا
الصّهيونية العالميّة و الغرب الاستعماريّ الذي صنعها و دعّمها و زرعها في أوطاننا
فجعلها بؤرة استيطانيّة و قلعة متقدّمة
لحماية مصالحه و تأبيد سيطرته.
هذان الحدثان الكبيران اللّذان زلزلا العالم العربيّ هما:
ذكرى قيام إسرائيل في 14 ماي 1948 تحقيقًا للقرار 181 للجمعيّة العامّة للأمم
المتّحدة الصّادر في نوفمبر 1947 و القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتَين عربيّة و
يهوديّة.أمّا الحَدَث الثّاني فهو ذكرى النّكبة في 15 ماي 1948 و هو اليوم الذي اختاره الفلسطينيّون لتخليد
ذكرى مأساتهم الإنسانيّة الكبرى و طردهم من ديارهم و وطنهم.
شاءت الأقدار،إذن، أن تتزامن الحرب الصّهيونية على غزّة
مع هذين الحدثَين الكبيرَين و أن تُضاف إلى هذا التّقدير و هذا التّزامن و
الارتباط مستجدّات على الأرض و مواقف و مفاجآت.
و على ضوء وقائع هذه الحرب الهمجيّة و الأحداث التي
صاحبتها و ما نشأ عنها من مواقف و إرادات
و ما انتهت إليه من لقاء و مفاوضات و إعلان لوقف إطلاق النّار يمكن استخلاص بعض
الملاحظات و الأفكار نضعها في نقاط لتركيزها.
1- إنّ أوّل ما يمكن استخلاصه من هذه الحرب أنّه بعد 73
سنة من قيام دولة إسرائيل لا تزال فلسطين حيّة في القلوب و تسكن الضّمائر و
الأفكار.و لا يزال الصّراع العربيّ الصّهيوني صراعًا مشروعًا و مصيريًّا لا يسقط
بالتّقادم.و هذا الأمر يعزّز من مشروعيّة الحقّ الفلسطينيّ في العودة إلى أرضه و
استعادة وطنه و يؤكّد،في الوقت نفسه، الحقّ الفلسطينيّ و الحقّ العربيّ أيضًا في المقاومة
و الاستبسال لاسترجاع هذه الأرض و استعادة هذا الوطن لأنّ فلسطين ليست وطنًا و جغرافيا فقط و إنّما هي قبلة و انتماء
كذلك.
2- الملاحظة الأخرى و هي أنّ الدّين حضارةً و انتماءً هو
الذي يضمَن للقضيّة الفلسطينيّة وضوحَها و جلاءها و بقاءها حيّة شاخصة في الضّمائر
و العقول.و سببُ هذه المزيّة التي يحظَى بها الدّين قدرتُه الكبيرة على التّوحيد و
لمِّ الشّمل و تحفيز الطّاقات و شحذ الهِمم و توضيح الرُّؤيا و تحديد الخطوات و
الأهداف في سهولة و يُسْر خلافًا للمعنى المبتذَل للسّياسة الرّائجة التي تطمس
الرّؤيا،غالبًا، و تتبنَّى لغة الخشب الكسيحة أو اللّغة الدّيبلوماسيّة الفجَّة
التي لا تُنتج،في هذه القضيّة و في كلّ القضايا الجادّة، سوى التّهافت في الرّأي و
الانكسار في الموقف و العمل.
و الأمر الآخر الذي يجعل للدّين حضورًا مُهيمنًا في
القضيّة الفلسطينيّة يُنْعشها و يُحْييها هو طبيعة المصادر و الأساطير المؤسِّسة
للدّولة اليهوديّة و هي مصادر دينيّة في المقام الأوّل و أصحابُها يُعلنونها و لا يتستّرون.و من
الضّعف و الضَّنَى بل من الغباء و الخَبَل مواجهة عقيدة دينيّة راسخة بسفسطات
سيّاسية متهافتة لأنّ النّصر في هذه المعركة،و في كلّ معركة مصيريّة، لا يكون
حليفك و لا يتحقّق إلاّ إذا كان سلاحك من جنس سلاح عدوّك أو هو أفضل منه.و إنّ أوّل سلاح في معركة تحرير فلسطين هو
عقيدة ضخمة تملأ القلب و تسيطر على الجوارح و توضّح الرّؤيا و ترسم الطّريق مضافًا
إليها إيمان كبير يتطاول على الخوف و الموت و يستهين بالعداوات و كلّ العقبات.و
إنّ الواقع التّاريخي الطّويل للمجتمعات العربيّة يثبت أنّ الدّين كلّما كان
بُعدًا أساسيًّا وسلاحًا حاضرًا في معاركنا حقّقنا الانتصارات و اسْترجَعنا الحقوق
و الأملاك و الأراضي و الأقاليم و
إنّ تغييب البُعد الدّيني في معركتنا مع الكيان اليهوديّ هو بداية الهزيمة و
الاستسلام.
3- و ثالث هذه الملاحظات تتمثّل في مواقف الغرب الرّسمي
المُعلنة كلّها،و في مقدّمتها أمريكا، و هي مواقف داعمة للعدوان الإسرائيلي و
تؤكّد،بصيغ مختلفة، على حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها أيْ حقّ الجيش الصّهيوني
في الاعتداء و القتل الهمجيّ و التّدمير الحاقد و استباحة الدّماء و التّشهير،في
المقابل، بكلّ محاولات الفلسطينيِّين للدّفاع عن أنفسهم و صدّ العدوان المسلَّط
عليهم.و إنّ هذه المواقف كلّها تثبت،مرّة أخرى، أنّ الولاء للصّهيونية من ثوابت
السّياسة الخارجيّة لأمريكا و دول أروبّا و تؤكّد،أيضًا، هشاشة اللّجوء إلى الغرب
في القضايا المصيريّة و الاحتكام إليه أو التّعويل عليه في حلّ القضيّة
الفلسطينيّة لأنه طرف في العدوان،بنسب مختلفة، و هو،في كلّ الأحوال، قد حدّد موقفه
و اختار مُعَسكره،منذ اليوم الأوّل، حين أدخل إسرائيل،عُنوةً، إلى أرضنا و جعلها
شَوكة في جُنوبنا.
4- أمّا دول التّطبيع و في مقدّمتها مصر و محور اتّفاقية
أبراهام فإنّ وضعهم أسوء من وضع ذليل في مَذلّته: فلا وساطتُهم المُضحكة التي
رفضتها إسرائيل و لا فتح معبر رفح يُنقذهم من العار و البَوار.و كيف يستطيعون
تزيين صورة إسرائيل أمام شعوبهم المتضامنة مع فلسطين ؟ و كيف
يستطيعون تبرير مجازر الصّهاينة في غزّة و عدوانهم الهمجيّ على العُزّل الآمنين في
القدس و في المدن الفلسطينيّة ؟ إنّ الذي تُظهره هذه الحرب على غزّة أنّ العدوان و
توابعه كالقتل الهمجيّ و التّدمير الأعمى و التّهجير الحاقد هو طبيعة ثابتة في الصّهيونية
المغروسة في أرضنا و أنّ شطحات محور التّطبيع و الانكسار و « صَوْلته » هي ضدّ
حركة التّاريخ و هي معادية لطبيعة الأشياء و مآلها الكساد و البَوار.
5- ملاحظة أخرى يمكن تسجيلها،في هذا المقام، و هي البُعد
الإنسانيّ للقضيّة الفلسطينيّة و
التّعاطف الدّولي الذي تحظَى به لدَى شعوب العالم و المؤسّسات و الشّخصيّات
العامّة ذات المكانة الاجتماعيّة و الرّأي و التّأثير.و سبب هذا التّعاطف الدّولي
أنّ اغتصاب فلسطين،في الوعي الجمعيّ العالميّ، هي أكبر جريمة تَمَّت،في العصر
الحديث، بتواطؤ دَوليّ استعماريّ ظاهر مُعتمد على القوّة و القهر و الإكراه و أنّ قضيّة
فلسطين هي قضيّة حقّ تقرير مصير شعب تمّ طردُه من أرضه و تجريده من ممتلكاته و
تشريده في المنابذ و المخيَّمات و مَنح حقّ الوطن و العيش فيه لشعب آخر لأهداف استعماريّة
كبرى.و إنّ الاستثمار في البُعد الإنسانيّ للقضيّة الفلسطينيّة و تنميته و توسيعه
و تجميع هذا التّعاطف الدّولي و تحصينه هو معركة أخرى ضدّ الكيان الإسرائيلي لا
تقلّ أهمّية عن المعارك الأخرى لمنافعها و جَدْواها.
6- و الجديد في هذه الحرب أنّ القدس هي فَتِيلها و هي
سببُ اشتعالها: القدس بسكّانها و ألوانها و مقدّساتها و القدس بتنوّعها و ممتلكاتها.القدس،إذن،
أرضًا و حضارةً و انتماءً هي سببُ هذه الحرب و هي مصدرها و هي الفتيل الذي
أشعلها.و هذا الأمر الجديد في هذه الحرب هو تحوّل نوعيّ في الصّراع الفلسطينيّ
الإسرائيليّ و هو إشارة قويّة من المقاومة الفلسطينيّة و رسالة واضحة إلى الكيان
الصّهيوني بأنّ القدس ليست خارج القضيّة الفلسطينيّة أو خارج النّزاع و ليست موضوع
تفاوض أو مساومة أو ابتزاز.إنّ هذا التّحول النّوعي في الصّراع الفلسطينيّ
الإسرائيليّ الذي حقّقته المقاومة الفلسطينيّة و عجزت عن تحقيقه،من قبل، مفاوضاتُ
السّلطة الفلسطينيّة يُؤْذِن بتهافت و سقوط كلّ السّياسات الإسرائيليّة المتعاقبة
و اندحار كلّ المؤامرات الدّولية المتضامنة معها و التي حاولت جعل القدس موضوعًا
محسومًا بالقوّة و التّواطؤ و الإكراه.
7- و يمكن تسجيل
ملاحظة أخيرة،قبل مغادرة المقام، و هي إحدى مفاجآت هذه الحرب العدوانيّة على غزّة خلاصتُها
أنّ المقاومة الفلسطينيّة قد استطاعت نقل كمّيات كبرى من الرّعب إلى الجهة الأخرى
و أكّدت قدرتها على إيلام العدوّ الإسرائيليّ و إلحاق الضّرر به و إرباكه.و إنّ المقاومة
الفلسطينيّة حين حقّقت معادلة توازن الرّعب في صراعها مع الكيان الإسرائيليّ تكون
قد صرّحت بأمرَين اثنَين: أحدهما هو إثبات قدرتها على النِّزال و المواجهة و إلحاق
الضّرر بالجيش الصّهيونيّ و التّأكيد على وجودها و بقائها قوّة أساسيّة لا يُستهان
بها و طرَفًا لا يمكن تجاوزه في حلّ القضيّة الفلسطينيّة و رَسْم مستقبلها.أمّا
الأمر الثّاني فهو إيذانُها ببداية تآكل و انحسار الدّور الوظيفيّ للكيان
الصّهيوني في المنطقة العربيّة و أنّ حاضر هذه المنطقة و مستقبلها لن تقرّره
إسرائيل و لن يكون،بعد اليوم، في مُكْنتها.