الأحد، 13 يونيو 2021

حظّك اليوم...

                             
كانت جالسة في مقعد بجانبي في الطّائرة المتوجِّهة إلى اسطنبول.رأيتُها تقلِّب صفحات كتابٍ بين يَدَيها: تقف طويلاً عند صفحة أو صفحَتَين ثمّ تقلِّب صفحات طِوالاً،بعصبيّة و في عجَل، و كأنّها تبحث عن شيء لم تَهتَدِ إليه.أغلقتْ الكتاب و ما لبثَتْ أنْ فتحتْه من جديد.ثمّ بدأتْ تلتفت إليَّ،بين الحين و الآخر، فتظاهرتُ بالغفلة و اللاّمبالاة.

كانت امرأة في عقدها الثّالث: ملامحُها جميلة و أناقتها لا تَخفَى و عِطرُها الأنثويّ الموزون يَفوح فيُنعش الحواسّ.مُحيّاها و هيئتُها يدلاّن على شأنها و مكانتها و يُنْبئان بوَضعها الاجتماعيّ.سألتنني و ابتسامة جميلة تَعْلو مُحيّاها: من فضلك كَمْ ستدوم الرّحلة إلى اسطنبول ؟ أجبتُها على سؤالها بما يُريحها.و لكنّي أعْلَم أنّ سؤالها لم يَكُنْ هو سؤالها و إنّما كان مطيّةً لأمر،من بعدُ، بَدَا لها.طاوعْتُها و بدأتُ أحدّثها عن اسطنبول جمالِها و ماضيها و حاضرها...

أقلعت الطّائرة و انْقضَى وَقتٌ و نحن في صُمات ثمّ الْتَفتتْ إليّ كما يَلتفتُ ضائقُ الصّدر إلى جهة تُنفِّس عنه و تُؤْنسه: هل تُؤمن بتوقّعات الأبراج و حظِّك اليوم و تأثير اللّيل و النّهار و الشّمس و النّجوم و القمر...؟               

رأيتُ في عَينَيها شيئًا فلم أشَأْ أنْ أصدمها بجواب حاسم قاطع فأجبتُها جوابًا بَيْنَ بَيْنَ خلاصتُه أنّ قراءة الأبراج و حظوظ اليوم قد يُستَأْنَس بها و قد يجد فيها طالبُها بعضَ حاجته و سَلْواه و لكنّها ليست صحيحة دائمًا فلا يُعتَدُّ بها...ثمّ طَفِقْتُ أشرح لها بما فَتَح الله عليَّ،في تلك اللّحظات،كيف أنّ الغَيب بيد الله وَحده و أنّ الإنسان هو صانعُ يَومِه و غَده و ليس عليه أنْ يَستسلم لوَضعه و يستكين و أنّ خَلاصه،دائمًا، و نجاحه في عمله و  في محاولته و  في تصميمه و مقاومته...

و حين رأيتُ اهتمامها و تركيزها،أثناء حديثي إليها، سألتُها عن حالها و وَضْعها و مناسبة سؤالها فأخبرتني أنّها امرأة متزوّجة و أنّ زواجها مهدَّد بالانهيار و أنّها تنتقل بين عواصم العالم بحُكم عملها في شركة عالميّة و أنّ مشاكل الزّوجيّة و العمل أفْقدتها طَعْم الحياة و أنّها لا تتمنّى إلاّ شيئًا واحدًا    و هو الرّاحة النّفسية و الاستقرار و أنْ تَنْعَم بحياة زوجيّة سعيدة.و لكنّ طبيعة عملها و تنقّلها يَحُولان دون ذلك و أنّها لا تجد عَزاءَها و سَلْواها إلاّ في تَقليب صفحات كتاب تَحمله معها،في حِلِّها و ترحالها، يُصاحبها فيُؤْنِسُها و يُخفّف من آلامها حين يُحدّثها عن بُرْجها و حظّها في هذا اليوم و في اليوم الذي بعده و في سائر الأيّام و يُعِينها على فَهم وَضعها و عواطفها و ما تُؤمِّلُه و ما ستَلقاه...

استمعتُ إليها مُنْصِتًا و لم أُقاطعها فاستَرسلتْ في الكلام.كانت كالمكبوت في حاجة إلى التّنفيس و الفَيَضان.و  ما كُنتُ أحبّ،في هذا المقام، أن أكون ناصحًا لها أو مُشْفِقًا على حالها لأنّ المُعَنَّى،في مثل هذه الحال و في كلّ الأحوال، يحتاج إلى من يستمع إليه و يفهمه و  يُنصت إليه و  يَشْحَنُه و يخاطب فيه حقيقته و إنسانيَّته و ليس يحتاج إلى مَن يَعِظه و يَنصحه.

توقّفتْ لحظةً و  كأنّها شعرتْ ببعض الحَرج فقالت: عفوًا فقد أزعجتُك بحديثي و أثْقَلتُ عليك بمشاكلي.تبسّمتُ في وجهها و طمأنتُها بكلمات تُزيل حَرَجها و تَرفع حياءَها.تواصل حديثُها و امتدّ ثمّ ذهب الحديثُ بنا في أودية و معانٍ ذات صلة بسؤالها.و خُضْنا في مواضيع أخرى مختلفة طوال الرّحلة و لم نشعر بالوقت يَنفد و ينقضي.تأثّرتُ بما أخبرتني مِن أمرها و عَجبتُ كيف يكون عَزاؤها و  سَلْوَاها، وعَزاء كلُّ الذين سواها،في توقّعات الأبراج و قراءة الحظوظ و حَمدتُ الله الذي أنْقذني من الوَهْم و لم يَجعلني من الذين يَستَبدلون الذي هو أدْنَى بالذي هو خَير.

و حين وصولنا إلى اسطنبول ودّعتُها و شحنتُها بكلمات تَليق بالحال و المقام متمنّيًا لها تمام السّعادة  و دوام التوفيق.نظرتْ إليّ بعَيْنَين جديدتَين مُشْرقتَين و ابتسمتْ ابتسامة أضاءتْ وجهها و قالت: يا الله...يا الله...أشْعُر بالخِفّة و الانطلاق و كأنّي خرجتُ من حَبْس طويل...و أضافت إضافة الواثق الحازم: و لن يَصْحَبني هذا الكتابُ بعد اليوم...سأفعل ما هو صوابٌ...سأفعل ما ينبغي فعلُه...سأقاوم...سأقاوم... 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/