كانت امرأة في عقدها الثّالث: ملامحُها جميلة و أناقتها لا
تَخفَى و عِطرُها الأنثويّ الموزون يَفوح فيُنعش الحواسّ.مُحيّاها و هيئتُها
يدلاّن على شأنها و مكانتها و يُنْبئان بوَضعها الاجتماعيّ.سألتنني و ابتسامة
جميلة تَعْلو مُحيّاها: من فضلك كَمْ ستدوم الرّحلة إلى اسطنبول ؟ أجبتُها على
سؤالها بما يُريحها.و لكنّي أعْلَم أنّ سؤالها لم يَكُنْ هو سؤالها و إنّما كان
مطيّةً لأمر،من بعدُ، بَدَا لها.طاوعْتُها و بدأتُ أحدّثها عن اسطنبول جمالِها و
ماضيها و حاضرها...
أقلعت الطّائرة و انْقضَى وَقتٌ و نحن في صُمات ثمّ الْتَفتتْ
إليّ كما يَلتفتُ ضائقُ الصّدر إلى جهة تُنفِّس عنه و تُؤْنسه: هل تُؤمن بتوقّعات الأبراج
و حظِّك اليوم و تأثير اللّيل و النّهار و الشّمس و النّجوم و القمر...؟
رأيتُ في عَينَيها شيئًا فلم أشَأْ أنْ أصدمها بجواب
حاسم قاطع فأجبتُها جوابًا بَيْنَ بَيْنَ خلاصتُه أنّ قراءة الأبراج و حظوظ اليوم
قد يُستَأْنَس بها و قد يجد فيها طالبُها بعضَ حاجته و سَلْواه و لكنّها ليست
صحيحة دائمًا فلا يُعتَدُّ بها...ثمّ طَفِقْتُ أشرح لها بما فَتَح الله عليَّ،في
تلك اللّحظات،كيف أنّ الغَيب بيد الله وَحده و أنّ الإنسان هو صانعُ يَومِه و غَده
و ليس عليه أنْ يَستسلم لوَضعه و يستكين و أنّ خَلاصه،دائمًا، و نجاحه في عمله و في محاولته و في تصميمه و مقاومته...
و حين رأيتُ اهتمامها و تركيزها،أثناء حديثي إليها،
سألتُها عن حالها و وَضْعها و مناسبة سؤالها فأخبرتني أنّها امرأة متزوّجة و أنّ
زواجها مهدَّد بالانهيار و أنّها تنتقل بين عواصم العالم بحُكم عملها في شركة
عالميّة و أنّ مشاكل الزّوجيّة و العمل أفْقدتها طَعْم الحياة و أنّها لا تتمنّى
إلاّ شيئًا واحدًا و هو الرّاحة
النّفسية و الاستقرار و أنْ تَنْعَم بحياة زوجيّة سعيدة.و لكنّ طبيعة عملها و
تنقّلها يَحُولان دون ذلك و أنّها لا تجد عَزاءَها و سَلْواها إلاّ في تَقليب
صفحات كتاب تَحمله معها،في حِلِّها و ترحالها، يُصاحبها فيُؤْنِسُها و يُخفّف من
آلامها حين يُحدّثها عن بُرْجها و حظّها في هذا اليوم و في اليوم الذي بعده و في
سائر الأيّام و يُعِينها على فَهم وَضعها و عواطفها و ما تُؤمِّلُه و ما
ستَلقاه...
استمعتُ إليها مُنْصِتًا و لم أُقاطعها فاستَرسلتْ في
الكلام.كانت كالمكبوت في حاجة إلى التّنفيس و الفَيَضان.و ما كُنتُ أحبّ،في هذا المقام، أن أكون ناصحًا
لها أو مُشْفِقًا على حالها لأنّ المُعَنَّى،في مثل هذه الحال و في كلّ الأحوال، يحتاج
إلى من يستمع إليه و يفهمه و يُنصت إليه
و يَشْحَنُه و يخاطب فيه حقيقته و
إنسانيَّته و ليس يحتاج إلى مَن يَعِظه و يَنصحه.
توقّفتْ لحظةً و كأنّها شعرتْ ببعض الحَرج فقالت: عفوًا فقد
أزعجتُك بحديثي و أثْقَلتُ عليك بمشاكلي.تبسّمتُ في وجهها و طمأنتُها
بكلمات تُزيل حَرَجها و تَرفع حياءَها.تواصل حديثُها و امتدّ ثمّ ذهب الحديثُ بنا
في أودية و معانٍ ذات صلة بسؤالها.و خُضْنا في مواضيع أخرى مختلفة طوال الرّحلة و
لم نشعر بالوقت يَنفد و ينقضي.تأثّرتُ بما أخبرتني مِن أمرها و عَجبتُ كيف يكون
عَزاؤها و سَلْوَاها، وعَزاء كلُّ الذين
سواها،في توقّعات الأبراج و قراءة الحظوظ و حَمدتُ الله الذي أنْقذني من الوَهْم و
لم يَجعلني من الذين يَستَبدلون الذي هو أدْنَى بالذي هو خَير.
و حين وصولنا إلى اسطنبول ودّعتُها و شحنتُها بكلمات تَليق بالحال و المقام متمنّيًا لها تمام السّعادة و دوام التوفيق.نظرتْ إليّ بعَيْنَين جديدتَين مُشْرقتَين و ابتسمتْ ابتسامة أضاءتْ وجهها و قالت: يا الله...يا الله...أشْعُر بالخِفّة و الانطلاق و كأنّي خرجتُ من حَبْس طويل...و أضافت إضافة الواثق الحازم: و لن يَصْحَبني هذا الكتابُ بعد اليوم...سأفعل ما هو صوابٌ...سأفعل ما ينبغي فعلُه...سأقاوم...سأقاوم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق