الاثنين، 3 يوليو 2023

لماذا بات العرب يهتمّون بكلّ ما يحدث في تركيا ؟

 


https://arabicpost.net/opinions/2023/06/22/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7/


يتابع العرب،باهتمام كبير، الشّؤون التّركية و مجموع الأحداث و التّطورات التي تشهدها تركيا منذ بداية هذه الألفيّة.و الانتخابات العامّة الأخيرة يوم 14 ماي 2023 تؤكّد حجم هذا الاهتمام و تضاعف درجته.و لكنّ السّؤال هو: لماذا هذا الاهتمام العربيّ الشّعبيّ و الرّسميّ بمجموع الأحداث و الشؤون التّركية ؟

إنّ هناك مجموعة من الأسباب،في ظنّي، هي التي جعلت هذا الاهتمام العربيّ بالشّؤون التّركية العامّة يتمدّد و يتواصل منذ عقدَين من الزّمن.و في الخطوط التّالية إضاءة و تحليل.

أمّا السّبب الأوّل فهو تاريخيّ و توضيح هذا الأمر أنّ العرب و الأتراك كلَيهما كان لهم دور في صناعة التّاريخ كبير و كان لهم،أيضًا، حضور مُهيمن و إنجازات حضاريّة كبرى: فالعرب دخلوا التّاريخ قبل الأتراك و صنعوا حضارة هي نسيجُ وَحْدها لا تزال أجيال الإنسانيّة المتعاقبة تستفيد من ثمارها.و لكن حين صَغُرت همّتُهم و انحصرت اهتماماتهم و اخْتفت مساحات المُثُل و الأفكار في حياتهم زالت قوّتُهم و تَسلّم المشعل منهم الأتراك الذين بسطوا نفوذهم في العالم العربيّ و في مناطق واسعة من العالم و أدَّوا دورهم التّاريخي الكبير في مسيرة الحضارة الاسلاميّة.

هذا اللّقاء التّاريخي بين العرب و الأتراك الذي دام أربعمائة سنة أو تزيد و الذي بدأ بدخول العثمانيّين المنطقة العربيّة،لأسباب مختلفة، منذ بدايات القرن الخامس عشر لا زالت آثاره شاخصة إلى اليوم و لا زالت معانيه محفورة في الضّمير الجمعيّ العربيّ.و لم تستطع سياسات التّتريك الظّالمة،في أواخر الدّولة العثمانيّة، التي كانت سبب القطيعة التّاريخية بين الشّعبَين العربيّ و التّركي و أحد أسباب انهيار الدّولة الإسلاميّة الكبرى التي تزعّمتها الآستانة آنذاك أو وصف الوجود العثمانيّ بالاحتلال للأرض العربيّة...كلّ أولئك ،إذنْ، لم يستطع أن يَكسر هذه الرّوابط التّاريخية القويّة بين الشّعبين الممتدّة في الزّمان و المكان.و كأنّ العرب حين يلتفتون جهة الأناضول و يُولُّون اهتمامهم شَطْر تركيا و يتابعون شؤونها و أحوالها و تفاصيلها إنّما يجدّدون عهدهم بحليف قديم و شريك معتبَر و جار قريب تربطهم به عوامل الحضارة و لقاء التّاريخ و علاقات الجغرافيا و أواصر الرّحم.

التّاريخ،إذنْ، و الجغرافيا و عوامل الحضارة و الانتماء هي أحد أسباب هذا الاهتمام العربيّ الشّعبيّ و الرّسميّ بمجموع الأحداث و الشؤون التّركية.

و لكنّ الذي ينبغي الإشارة إليه،في هذا المقام، أنّ هذه الرّوابط التّاريخية و القيم الثّقافية المشتركة و العلاقات و الأواصر التي كانت مُغَيَّبة،أو مدفونة، في تركيا منذ إلغاء الخلافة الإسلاميّة في 29 أكتوبر 1923 و تأسيس الجمهوريّة التّركية التي قامت على الكماليّة...هذه الرّوابط التّاريخية و الأبعاد الحضاريّة و القيم الثّقافية المشتركة التي تصنع،اليوم، هذا الاهتمام العربيّ و هذا التّواصل و الارتباط إنّما نفخ الرّوحَ فيها و بعثها من مرقدها فأحياها مجموعُ الظّروف السّياسية و الثقافية و النّفسية التي أعقبت نتائج الانتخابات النّيابية في نوفمبر 2002 التي شهدت فوز حزب العدالة و التّنمية و حصوله على 365 مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان و عددها 550 مقعدًا آنذاك.

  أمّا السّبب الثّاني لهذا الاهتمام العربيّ الواسع بتركيا و شؤونها فهو التّجربة التي يخوضها هذا البلد منذ بداية هذه الألفيّة إذْ هي تجربة فريدة استطاعت تحقيق القفزة النّوعيّة في قطاعات عديدة و تحقيق جملة من القرارات و المواقف و السّياسات في ظروف و أوضاع مشحونة بالإكراهات و المتناقضات.و العرب حين يتابعون الشّؤون التّركية و التّحوّلات النّوعية التي تحقّقت في هذا البلد و فصول النّهضة و البناء التي شملت قطاعات حيويّة و استراتيجيّة كالصّناعات العسكريّة و البُنَى التّحتية الواسعة و المشاريع الكبرى و مشاهد الانتخابات و السّلوك السّياسي و مجموع الأحداث و التّطورات فإنّهم يتساءلون: كيف استطاعت تركيا بلدُ الانقلابات العسكريّة التي دخلت دوّامة السّلبية و التّبعية و التّخلف و الفقر منذ أوّل انقلاب عسكريّ في 27 ماي 1960 – كيف استطاعت تجاوز أزمتها و الخروج من نَفَقها المُظلم ؟ و كيف استطاعت تركيا الجديدة أو تركيا ما بعد الحكم العسكريّ أنْ تحقّق،في عقدين من الزّمن، إقلاعًا ظاهرًا بإنجازاتها في الدّاخل و الخارج فتصبح دولة قويّة و محترمة و أكبر إنجاز حقّقته،على المستوى الخارجيّ، هو حضورها القويّ في مسرح العلاقات الدّولية و تأثيرها الظّاهر في الأحداث و السّياسات متوسّلةً بقوّتها النّاعمة و قوّتها الصّلبة و يُحْسب لها كلّ حساب على المستوى الإقليميّ و الدّوليّ ؟ و العرب حين يتساءلون هذا التّساؤل يستحضرون،في الوقت نفسه، وجود تركيا الفعّال في كثير من  المناطق و الأمصارو كذلك حضورها النّوعيّ في حوض البحر الأبيض المتوسّط شرقِه و غربه و في أروبّا و إفريقيا و آسيا و فاعليّتها في الأحداث الدّوليّة و في كثير من القضايا و النّزاعات و التّكتلات تُنافس الكبار و كلمتها مسموعة و هي تصنع لنفسها مكانًا محترمًا في نادي الدّول الكبرى ذات القوّة و الفاعليّة و التّأثير.

و كذلك يتساءل العرب و هم يتابعون المشهد التّركي بفصوله المختلفة و مظاهر القوّة البارزة فيه: كيف استطاع الأتراك،و هم أحفاد السّلاطين الذين حكموا أجزاء كبيرة من العالم، أنْ يَنهلوا من ثقافتهم و يَتَشرَّبوا بتُراثهم و أنْ  ينجحوا في الاستمداد من مجموع القيم التي قامت عليها الأمبراطوريّة العثمانيّة كالقوّة و الصّرامة و السّيادة و النِّدّية و إثبات الذّات و تحقيق الوجود و استقلاليّة القرار السّياسي و رفض التّبعية و الإملاءات و الاعتزاز بالهويّة و الانتماء.

و كأنّ العرب الذين يئنّون تحت أنظمة الاستبداد المترهِّل الذي قتل فيهم إنسانيّتهم و دفن مواهبهم و عطّل طاقاتهم و صيّرهم أرقامًا متشابهة – كأنّ العرب بهذا التّساؤل و هذه الالتفاتة و هذا الاستحضار إنّما يجدون في التّجربة التّركية مثالاً ممكنٌ اتّباعُه أو الاستفادة منه و متنفَّسًا لأوضاعهم الصّعبة أو مَخرجًا مأمولاً لظروفهم البائسة و نموذجًا قد يُحْتذَى به يتطلّعون إليه و يُؤَمِّلون قيامه في أوطانهم.

و لكن..هل يمكن للعرب أنْ يستفيدوا من التّجربة التركية ؟ و ما هي مظاهر هذه الاستفادة و حدودها ؟ أسئلة كبيرة و جادّة من هذا القَبيل موضوعة أمام صنّاع القرار و ذَوي النّباهة و الفكر و كلّ المهتمّين بإصلاح الأوضاع العربيّة القاتمة التي بلغت مستويات لا تُضاهَى من التّخلف و الانكسار و البؤس و السّلبية و الإفلاس.

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الجمعة، 26 أغسطس 2022

سيّد قطب

سيّد قطب ( 09 أكتوبر 1906 – 29 أوت 1966 )

مفكّر و أديب مصريّ له إنتاج كبير في قضايا الفنّ و الأدب و السّياسة و الفكر.تتميّز كتاباته بالقوّة و الأصالة و العمق.و من أكبر أعماله تفسيره ( في ظلال القرآن ) الذي ألّفه في السّجن.حُكم عليه بالإعدام لمواقفه السّياسية ضدّ نظام جمال عبد النّاصر (1918 – 1970).

و إذا كان ( الظّلم من شِيَم النّفوس...)،كما يقول أبو الطّيب المتنبّي ،فقد كان حظّ سيّد قطب حظًّا موفورًا من هذا الظّلم إذْ ظُلِم مرّتَين اثنتَين حين ظلمه صنفان من النّاس: صِنفٌ أحبّه حبًّا كبيرًا فأخرجه هذا الحبّ عن حدود الاعتدال و المعقوليّة و الاتّزان.و صِنفٌ كرهه كرهًا كبيرًا فنسب إليه كلّ المصائب و المثالب و أنواع العنف و الغلوّ و الإرهاب...

إنّ هذا الموقف المتطرّف من سيّد قطب ليس بسلوك غريب لأنّنا نحن العربَ مَفتونين بالأضداد و مَهْووسين بالتّطرف و المغالاة في العواطف و المواقف و يَغيب عن وَعْينا،دائمًا أو غالبًا، إيجادُ الميزان الصّحيح في المواقف المختلفة أو تحقيق توازن الميول في الآراء المتباينة و المصالح المتداخلة.و لا نجد النَّشْوة كلّها و العظمة جُلَّها إلاّ في احتضان المغالاة و اتّخاذها وسيلة و غاية بل منهجًا و تَديُّنًا أحيانًا! و هذا الموقف من سيّد قطب « طبيعيّ » ،أيضًا، لأنّ الحبّ كالكُره كليهما قد يُعْمي و يُصِمّ و قد يقود صاحبَه إلى مواقف و مآلات تحتاج إلى استدراك و تصحيح.

إنّ سيّد قطب،رحمه الله، من الشّخصيات الكبيرة المتميّزة ذات الإبداع و العطاء و ذات السّياحات في العوالم و الأكوان.و إنّ التّعامل مع مثل هذه الشّخصيات و الموقف منها و ابتلاء تُراثها لا يكون إلاّ بقيام أمرَين اثنَين أراهما أساسيَّين: أوّل الأمرَين هو تحقيق الاقتراب منها بشكل من الأشكال بأنْ تعيش معاناتها أو أنْ يُصيبك شيء من هذه المعاناة لأنّ سيّد قطب روح مُشتعل.و هذا الرّوح المُشتعل لا يَقترب من فَهمه و لا يَدنو من عالمه و لا يفوز بتذوّق معانيه و استيعاب أفكاره و الدّوران في فَلَكه إلاّ من أُوتيَ رُوحًا شقيقًا أو رُوحًا أصابه شَيءٌ من هذا الاشتعال أو كان قريبًا منه أو يكاد و إلاّ فسيكون كالمُصاب بعَمَى الألوان لا يَهتدي و لا يَستَبين.

الأمر الثاني المطلوب حين التّعامل مع هذه الشّخصيات و الموقف منها يقتضي تحكيم مبدأ واحد لا شريك له و إقامة ميزان واحد لا غير و هو: التّقدير لا التّقديس أيْ تقدير الشّخصيات الإنسانيّة لا تقديسها.و التّقدير يقتضي أنْ نتعامل مع الشّخصية الإنسانيّة التي هي محلّ الدّراسة و النّقد   أو الموازنة و العَرْض على أنّها شخصيّة إنسانيّة خالصة،في المقام الأوّل، لها ما لها و عليها ما عليها ذاكرين ضعفها و قوّتها و مُبْرزين تدفّقها و نُضَوبها و واقفين عند إضافاتها النّوعية و إخفاقاتها البَيِّنة لأنه ليس أحدٌ من النّاس إلاّ يُؤخَذ من قوله و يُتْرك إلاّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم...أمّا التّقديس فهو خروج بهذه الشّخصية الإنسانيّة عن وَضعها الإنسانيّ الأوّل الذي يقتضي النّقص و القصور.و إنّ سيّد قطب،رحمه الله، شخصيّة إنسانيّة يَسْري عليها ما يَسْري على جُموع الأناسيّ من أوصاف النّقص و القصور و يُصيبها ما يُصيب الآدميِّين من الخطأ و النّسيان و العجز و الافتقار.   

و إذا عُدْنا إلى الكُتّاب و المُبدعين الكبار وأساطين العلم و المعرفة،في الحضارة الإسلاميّة، لا نجدهم يخرجون عن تحكيم هذا الميزان في المواقف و العواطف و إصدار الأحكام.و هذا الميزان الذي يتناول الشّخصية الإنسانيّة بكُلِّيتها: بفَضْلها و نَقْصها و قوّتها و ضعفها و لا يأخذ الأمور عِضِين و لا يتناول هذه الشّخصيات الإنسانيّة أجزاء و تقاسيم هو الذي نجد له أصداء و أسماء في علم كبير في الحضارة الإسلاميّة هو علم الجَرح و التّعديل الذي يدلّ بمَبناه و معناه على أهمّيته و عظمته و تميّزه و سَبْقه.

هذا هو الميزان القويّ الذي كان سائدًا في البيئات العلميّة المختلفة إبّان قوّة الحضارة الإسلاميّة و إشعاعها.و لكنّ الذين جاءوا من بَعدُ تنكَّبوا قليلاً أو كثيرًا عن هذا الميزان فاختلطت عليهم الأمور كما تختلط الألوان على المُصاب بعَمَى الألوان.

بعد هذه التّقدمة نصل إلى إثبات موقف،أظنُّه صوابًا، خلاصتُه أنّ سيّد قطب مَعْلَم من معالم الثّقافة العربيّة و الإسلاميّة الحديثة و عَلَمٌ من أعْلامها الكبار و قد أغنى المكتبة العربيّة بسَيل كبير من الإنتاج ذي القوّة و العمق و الأصالة و السَّبق.و إبداعه الغزير في الفنّ و النّقد و الأدب و دراساته الإسلاميّة و نظريّته في التّصوير الفنّي في القرآن و ( ظِلالُه ) و ( عدالتُه ) و  ( خَصائصُه ) و ( معالمُه ) و إنتاجه الكبير في السّياسة و الفكر و إضافاتُه النّوعية في نقد الفلسفات و الإيديولوجيّات و تحليلها و تفكيكها...كلّ أولئك هو إبداعٌ نَسِيجُ وَحْدِه و هو جدير بالنّشر و القراءة و الاهتمام و هو حَقيق،أيضًا، بالنّقد و التّصويب أو التّصحيح و الاستدراك...

-----   -----   -----   -----   -----

مقتطفات من كتاب ( أفراح الرّوح ) و هو،في الأصل، مجموعة خواطر بعثها سيّد قطب إلى أخته أمينة:

( حين نعتزل الناس لأنّنا نُحسّ أنّنا أَطْهَر منهم روحًا أو أَطْيَب منهم قلبًا أو أَرْحَب منهم نفسًا أو أَذكَى منهم عقلاً لا نكون قد صَنعنا شيئًا كبيرًا...لقد اخْتَرنا لأنفسنا أَيْسر السُّبل و أقلَّها مؤونة.إنّ العَظَمة الحقيقيّة أنْ نُخالط هؤلاء النّاس مُشبَّعين بروح السّماحة و العَطف على ضُعفهم و نَقصهم و خَطَئهم و رُوح الرَّغبة الحقيقيّة في تَثقيفهم و تطهيرهم و رَفعهم إلى مُستوانا بقَدر ما نستطيع.و ليس معنى هذا أنْ نتخلَّى عن آفاقنا العُليا ومُثُلنا السّامية أو أنْ نتملَّق هؤلاء الناس ونُثْني على رذائلهم أو أنْ نُشْعِرَهم أنّنا أَعْلى منهم أفُقًا.إنّ التّوفيق بين هذه المتناقضات وسَعَة الصّدر لِما يتطلّبه هذا التّوفيق من جُهد هو العظمة الحقيقيّة ).

( لا شَيْءَ في هذه الحياة يَعْدِل ذلك الفرحَ الرُّوحي الشَّفيف الذي نَجده عندما نستطيع أنْ نُدخِل العَزاء أو الرِّضَى و الثّقة أو الأمَل أو الفرح إلى نُفوس الآخرين ).

( عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة: تبدأ من حيث بَدأنا نَعِي و تنتهي بانتهاء عُمرنا المحدود.أمّا عندما نعيش لغيرنا،أيْ عندما نعيش لفكرة فإنّ الحياة تبدو طويلة عميقة: تبدأ من حيث بدأت الإنسانيّة وتمتدّ بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.إنّنا نربح أضعاف عمرنا الفرديّ في هذه الحالة: نربحها حقيقة لا وَهْمًا.فتصوُّر الحياة على هذا النَّحو يُضاعف شعورَنا بأيّامنا وساعاتنا ولحظاتنا...و ليست الحياة بِعَدّ السّنين و لكنها بعِداد المشاعر...لأنّ الحياة ليست شيئًا آخرَ غَيَر شُعور الإنسان بالحياة.جَرِّدْ أيَّ إنسانٍ مِنَ الشّعور بحياته تُجَرِّدْه من الحياة ذاتها في معناها الحقيقيّ.و مَتَى أحسَّ الإنسان شُعورًا مضاعَفًا بحياته فَقَد عاش حياةً مضاعفةً فعلاً ).

( عندما نَلمس الجانبَ الطّيّب في نفوس النّاس نجد أنّ هناك خيرًا كثيرًا قد لا تراه العيون أوّل وَهْلة.لقد جَرَّبتُ ذلك..جرّبتُه مع الكثيرين حتى الذين يبدو في أوّل الأمر أنّهم شَرِّيرون أو فقراء الشّعور.شَيءٌ من العطف على أخطائهم و حماقاتهم.شَيءٌ من الوُدّ الحقيقيّ لهم.شَيءٌ من العناية غير المتصنَّعة باهتماماتهم وهمومهم...ثم ينكشف لك النَّبع الخَيِّر في نفوسهم حين يمنحونك حُبَّهم ومودّتهم وثقتهم في مقابل القليل الذي أعطيتهم إيّاه من نفسك متى أعطيتهم إيّاه في صدق وصفاء وإخلاص.إنّ الشّر ليس عميقًا في النّفس الإنسانيّة إلى الحدّ الذي نتصوّره أحيانًا.إنّه في تلك القشرة الصّلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء.فإذا أَمِنوا تَكشَّفت تلك القشرة الصّلبة عن ثمرة حلوة شهيّة...).

(...لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تَنْبت في ذهن بارد لا في قلب مُشِعّ.آمِنْ أنتَ أوّلاً بفكرتك.آمِن بها إلى حَدّ الاعتقاد الحارّ.عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون.و إلاّ فستبقَى مجرّد صياغة لفظيّة خالية من الرّوح و الحياة.لا حياةَ لفكرة لم تتقمَّص رُوح إنسان و لم تصبح كائنًا حيًّا دَبَّ على وجه الأرض في صورة بشر.كلُّ فكرة عاشت قد اقْتاتت قلبَ إنسان.أمّا الأفكار التي لم تَطْعَمْ هذا الغذاء المُقدَّس فقد وُلدَتْ ميِّتة ولم تَدفع بالبشريّة شبرًا واحدًا إلى الأمام ).

( لَمْ أَعُد أَفْزَع من المَوت حتّى لو جاء اللَّحظة.لقد عَملتُ بقَدْر ما كنتُ مُستطيعًا أنْ أَعمل.هناك أشياء كثيرة أودُّ أنْ أعملها لو مُدَّ لي في الحياة و لكنَّ الحَسرة لَن تأكلَ قلبي إذا لمْ أَسْتطعْ.إنّ آخرين سَوف يَقومون بها.إنّها لنْ تموت إذا كانت صالحةً للبقاء.فأنا مُطمئنٌّ إلى أنّ العناية التي تَلْحظُ هذا الوجود لن تَدَع فكرة صالحة تمُوت ).


الخميس، 11 أغسطس 2022

السّفر قطعة من العذاب ؟


السّفر :هل هو،حقيقة، قطعة من العذاب ؟ و إذا كان الحال كذلك فما تجلية هذا الأمر ؟

النّصوص الدّينية الواردة في موضوع السفر قسمان: أمّا القسم الأول فمحكوم بصحّته و من هذا القَبيل ما رواه البخاري و مسلم: ( السّفر قطعة من العذاب يَمنع أحدكم طعامه و شرابه و نومه. فإذا قَضى نهمته فلْيُعَجِّل إلى أهله ).

أمّا القسم الثاني من هذه الأحاديث فهو محلّ الرأي و الاختلاف و من هذا النوع: ( سافروا تصحوا و تغنموا ) و ( سافروا تصحوا و تسلموا ) و ( سافروا تصحوا و ترزقوا )...و في هذا القسم الثاني قد وردت أحاديث أخرى،بصيغ مختلفة، تربط بين السفر و الصوم و الغزو لتحقيق الصحة و الغنيمة والسلامة و الرزق. هذا القسم الثاني من الأحاديث،بصيغها المتباينة، اختلف في شأنها علماء الحديث و المحققون.و الظاهر أن سبب اختلافهم هو الطرق المختلفة التي وردت بها هذه الأحاديث و هي التي جعلتهم يحكمون عليها بأحكام تنتقل من الضعف و الوضع إلى الصحة و التحسين.و يمكن العودة إلى هذا الخلاف العلمي في مظانّه و أسفاره لأنه لا يهمنا في هذا المقام.و لكن بعيدا عن ساحة هذا الخلاف العلمي و تفصيلاته فإن هذا القسم من أحاديث السفر،على فرض ضعفه، فإن معناه صحيح.و بيان هذا الأمر كله مضافا إليه بيان أن السفر قطعة من العذاب كل أولئك تتكفل به الخطوط التالية.

إنّ وصف السّفر بأنه ( قطعة من العذاب…) في الحديث الصحيح ليس وصفًا على الحقيقة و إنما هو وصف على المجاز و بيان للحال الناشئة من السفر و ما يلقاه المسافر من فقد و حرمان و مشقة وعنت و منغصات.و توضيح هذا الأمر أن المسافر،حين يكون في سفره ،سيخرج من كل ما كان قد عهده في حاله قبل السفر حين كان متحكما بقدر كبير في تنظيم أوقات طعامه و شرابه و نومه و سائر وظائفه الحيوية و عاداته…و يكون حينئذ،أي أثناء سفره ،في وضع مختلف تماما عن وضعه الأول أو وضعه الطبيعي فيفقد بعضا،أو كلا، مما كان متحكما فيه أو كان قد ألفه و تعوده في حال الإقامة في أهله و بين سربه. و قد قال الإمام النّووي في شرحه لهذا الحديث: ( معناه: يمنعه كمالها ولذيذها لِمَا فيه من المشقَّة والتعب ومقاساة الحر والبرد و السُّرَى و الخوف و مفارقة الأهل و الأصحاب وخشونة العيش ).

إنّ وصف السفر بأنه ( قطعة من العذاب…) في الحديث الصحيح إنما هو وصف على المجاز و ليس وصفا على الحقيقة و ليس فيه،البتة ، جرح لماهية السفر أو انتقاص من أهميته و نفعه أو ازدراء لفاعله.

و لعلّ سائلا يسأل: كيف يمكن التوفيق بين معنى حديث ( السفر قطعة من العذاب…) و معاني الأحاديث الأخرى،و قد تقدّم بعضها، التي تجعل الصّحة و الغنيمة و السّلامة و الرّزق متحقَّقة في السفر ؟ الجواب سهل يسير و قد أجاب عنه بعضهم بالقول بأنه لا تعارض بين الحديثين الشريفين لأنه لا يلزم من وجود الصحة و الغنيمة و الرزق في السفر لما فيه من الحركة و التنقل والتجوال أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة و المنغصات و افتقاد للمألوف من الطعام و الشراب و النوم و سائر الأحوال و العادات.ويكون السفر بهذا الإيضاح و التفصيل شبيها بالدواء المر الذي يهب صاحبه الصحة و السلامة و العافية.

السفر،إذن، هو قطعة من العذاب مجازا و ليس حقيقة،بالمعاني التي سبق بيانها، و هو متعدد النفع كثير الفوائد.و قد لخص بعضها الإمام الشافعي في أبياته المشهورة:

تغرب عن الأوطان في طلب العُلا *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

إزالة هم و اكتساب معيشة *** و علم و آداب و صحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار غمٌّ و كربة *** و قطع الفيافي و ارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من حياته *** بدار هوان بين واش وحاسد.

و قد توسع أبو منصور الثعالبي،أيضا، في بيان منافع السفر في كتابه: ( اللطائف و الظرائف ) فقال: (...السفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه ونظامه لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعض.و من فضله أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار و محاسن الآثار ما يزيده علما و يفيده فهما بقدرة الله وحكمته و يدعوه إلى شكر نعمته و يسمع العجائب و يكسب التجارب و يفتح المذاهب و يجلب المكاسب و يشد الأبدان و ينشط الكسلان و يُسلي الأحزان و يطرد الأسقام و يُشهِّي الطعام و يحط سَوْرة الكبر و يبعث على طلب الذكر ).

و يمكن لي أن أضيف منافع أخرى،قبل مغادرة هذا المقام، هي صنوان لما تقدم أو تكملة لما مضى خلاصتها أن السفر هو مناسبة للخروج من المنطقة الآمنة Confort Zone التي هي أفكارنا القَبْليّة و تصوّراتنا الأوّلية التي نأوي إليها و نقوم بترديدها و المحافظة عليها دون التّفكير في تغييرها. و هذه المنطقة هي منطقة الرّاحة و الأمان التي نجد فيه راحتنا النّفسية و الجسديّة بإشباع كلّ لذّاتنا و الاستجابة لكلّ دوافعنا و هي المنطقة التي تُشْعرنا بالثّقة و السّيطرة و تملأنا باللّذة و السعادة و الرّضا لأنّها منطقة عاداتنا اليوميّة الحبيبة إلى أنفسنا التي لا تتغيّر و تصوّراتنا القَبْليّة التي لا تتبدّل و هي،كذلك، المنطقة التي لا تُكلّفنا الجهد الكبير و لا تفرض علينا المعاناة الكُبرى.

و السّفر ،لكونه قطعة من العذاب، حين يخرجنا من منطقتنا الآمنة و يكسر سلسلة العادة في حياتنا و يقطع لذّة المَألوف في أوقاتنا و ينتشلنا من منطقة الوضع الحالي Status quo التي تمنعنا من التّقدم و التّطور و التّجديد و تمنعنا تنمية طاقاتنا و مواهبنا…السّفر حين يصنع ذلك و أكثر فإنه يضيف إلى أعمارنا أعمارا أخرى و إلى تجاربنا تجارب كبرى و إلى عواطفنا و أرواحنا غناء و ثراء و كميات و مساحات و ينقلنا من قفص واقعنا الضيق المحدود و سجن يومياتنا الصغيرة المتعبة إلى الواقع الإنساني الكبير و فضاء الإنسانيّة الأكبر.

و السّفر هو وسيلة من وسائل اكتشاف الذات و الوقوف على نقصها وعيوبها و مخاوفها و هواجسها و شكوكها و ظنونها فيهبنا وعيا جديدا بذاتنا و معرفة حقيقية بدخيلتنا و خفايانا.و هذا الأمر كله ما كان ليتحقق لو كنا في حال الإقامة و البُلَهْنيَّة و السكون.

و من بركات السّفر ،كذلك،أنه يمنحنا مناسبة اكتشاف بلدان أخرى و أقاليم أخرى و ثقافات أخرى و أفكار و لغات و عادات و تقاليد و أذواق و ألوان و يضع،أمامنا، هذه الصورة الجميلة للعالم القائم على التنوع و الاختلاف.و كل ذلك هو إضافة نوعية إلى رصيدنا الإنسانيّ و توسعة لمداركنا و إثراء لمكتسباتنا الروحية و العلمية و الثقافية.

و من حسنات السّفر ،أيضًا، أنه يسهل العلاقة مع الآخر و يحقق التواصل مع كل من حولك من الناس. فقد تبدأ السفر وحيدا و لكنك سرعان ما تكتشف أنك لست وحدك و أنك محاط بأناس كثيرين في أي مكان تقصده: تتعرّف على أناس هنا و تربط علاقات مع آخرين هناك و تتعاطف مع جموع هنالك و تتبادل التحية مع هؤلاء و تتقاسم الإنسانية مع أولئك...و السّفر حين يربطك هذا الربط الجميل و المميز بالكون و العالم و الطبيعة و الأحياء فإنه يملأك،في الوقت نفسه، بعواطف قويّة و خواطر سَنيّة و يشحنك بروح جديد و إقبال قويّ و عزم ظاهر و تفاؤل كبير.


الحوار: الثلاثاء: 2 أوت 2022 / العدد: 4673

  

الصّيفَ ضيَّعتِ اللَّبن


الصّيف موسم ثقيل على النّفس لحرارته و قِصر لَيله و طول نهاره.و لا تتأذَّى السّاعة البيولوجيّة في مَوسم كما تتأذَّى في فصل الصّيف لأنّ غالبيّة النّاس لا يَقدرون على ضَبط نظام حياتهم،في هذا الموسم، تَبَعًا لما كان عليه في ما مضَى من المواسم و الشّهور. 

و لكنّ الصّيف،بعد هذا أو رَغم هذا، له معنًى خاصّ عند معظم الناس و مكانته لا تَحظَى بها المواسم الأخرى لأنه أشبه بالمحطّة الأخيرة في قطار الحياة السّنويّ التي يتطلّع إليها كلّ الرّكاب و يَستعجلون أوانها لينزلوا من هذا القطار الذي رجّهم رجًّا و أرهقهم رَهقًا و أتعبهم و أنْهك قُواهم و ضَغَط أعصابهم و أَثْلم أبدانهم و حمّلهم،شهورًا طوالاً، ما لا يُطيقون...يَستعجلون أوانَ الصّيف،إذنْ، و يَهَشّون لقُربه لينزلوا من هذا القطار و يترجّلوا قليلاً و يتخلّصوا من بعض الأعباء و يتخفّفوا من بعض التّكاليف...

الصّيف،بهذا المعنى، حبيب إلى النّفس لذيذ إلى القلب لأنه موسم الدَّعة و السّكون و الرّاحة و الاستجمام و التّنقل و التّرحال و الغَفلة و التّخفف و الفرحة و الانطلاق...تذوق النّفس فيه راحتها فتَستعيد اتِّزانها و تَستدرك ما فاتها.و لكنّ الصّيف،بسبب طبيعته الخاصّة، قد يَجني على صاحبه فيكون فصل الخسارة و الفَقد و الحَسرة و الجَدب.فَلْيَحرص العاقل على أنْ لا يَكون حاله،في هذا الفصل، شبيهًا بحال  دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة التي ضَيّعتْ في الصَّيف اللّبن.


الحوار: 28 جويلية 2022 / العدد: 4670


الأحد، 3 يوليو 2022

وهــران المتـوسّطيـة

تحتضن وهران الدّورة 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسّط بعدما تمّ تأجيلها العام الماضي بسبب وباء الكوفيد-19.و هذه الدّورة هي أوّل تنظيم لمنافسة متعدّدة الرّياضات تحتضنها هذه المدينة السّاحليّة بعد الجزائر العاصمة سنة 1975.و هذه الألعاب المتوسّطية هي منافسات رياضيّة تشارك فيها منتخبات مجموعة من الدّول المُطلّة على البحر الأبيض المتوسّط مضافًا إليها بعض الدّول التي أُلحقت بها و ليس لها سواحل متوسّطية كالبرتغال و صربيا و مقدونيا الشّمالية و سان مارينو و إمارة أندورا.و تشارك،في هذه الألعاب التي تدوم أحد عشر يومًا،26 دولة و 3390 متنافسًا في 244 منافسة.

و تملك وهران من التّاريخ و الأمجاد و من الموقع و الجغرافيا و من المواهب و العبقريّات و من الطّاقات و القدرات...ما يؤهّلها لأنْ تكون مدينة إشعاع فكريّ و حضاريّ قادرة على منافسة الحواضر الأروبّية و تأكيد مكانتها و بسط تأثيرها في حوض البحر الأبيض المتوسّط: فهي ثاني أكبر مدن الجزائر وعاصمتها الغربيّة و إحدى أهمّ مدن المغرب العربيّ و هي مركز اقتصادي كبير و ميناء بحريّ هامّ.و هي المدينة التي بناها البحّارة الأندلسيّون الذين اتّخذوها مركزًا لتجارتهم مع الرّستميّين في تيهرت في القرن العاشر: يسكنها التّاريخ بآثاره و شواهده و تحكي تفاصيلها الجغرافيا و هي محطة التقاء الثّقافات و الحضارات و ظلّت موضع نزاع بين أمويِّي الأندلس و الفاطميّين و كذلك بين الدّول المختلفة التي حكمت المغرب الإسلاميّ.حرّرها الباي مصطفى بوشلاغم،El Bigotillos كما يسمّيه الإسبان بسبب شاربه المتميّز، و اسمه الحقيقيّ مصطفى بن يوسف، التّحرير الأوّل سنة 1708 من قبضة الإسبان الذين احتلّوها سنة 1509 ثمّ حرّرها الباي محمّد الكبير،سنة 1792، التّحرير الثّاني و أصبحت مركزًا لبايلك الغرب،ضمن الوصاية العثمانيّة، إلى غاية الاحتلال الفرنسيّ سنة 1830.

وهران هي مدينة العلماء و الصّالحين و مدينة العلاّمة  محمد بن عمر الهوّاري ( 1350 - 1439 ) الدّفين بالمدينة الذي جدّد لوهران هويّتها و انتماءها الحضاريّ و المعروف بسيّدي الهوّاري و إلى اسمه تُضاف وهران.و وهران هي مأوى الفنّانين و الأدباء و الكتّاب و الشّعراء و عرين المجاهدين و الشّهداء و في أرجائها تتردّد هذه الأصداء و الأنباء.و هي المدينة التي تعانق البحر و تضجّ بالحركة و الحياة كأنها تسابق الزّمن و يَحلو فيها العَيش و في رحابها تتزاوج الألوان و الأذواق و تستعلن الطّعوم و الأطباق و تتلاقح  الآراء و الأفكار.وهران هي كلّ هذا المزيج و النّسيج و هي،أيضًا، مدينة الأناقة و الجمال و فضاء واسع للنّغمة الحلوة و الكلمة الطّيبة و اللّحن المتَّزن و الأداء الجميل و هي مدينة أحمد وهبي و بلاوي الهواري و أحمد صابر و عبد القادر الخالدي...و الفنّ الأصيل.

و هي المدينة العالميّة التي يدخلها الغريب فلا تُشعره بغربته و يستأنس بها فتحتضنه و يقيم فيها فلا تُنكره.و في هذا الشّأن يُنسَب إلى ابن خلدون رأي لم أستطع التّحقق منه و هو قوله: » وهران متفوّقة على جميع المدن الأخرى بتجارتها وهي جنّة التُّعساء.من يأتي فقيرًا إلى أسوارها يذهب غنيًّا «.   

 إنّ النّفع العاجل لألعاب البحر الأبيض المتوسّط أنّها تُخرج وهران من عُزلتها المتوسّطية فتكون هي دار الضّيافة و هي العُرس و هي القِبلة و هي محطّ الاهتمام و يتردّد اسمُها و رسمُها،أيّامًا معدودات، في جَنَبات حوض البحر الأبيض المتوسّط و يتعرّف ضيوفُها على أهْليها و ساكنيها   و بَرِّها و بحرها و ريحها و أنْسامها و طعامها و شرابها...و لكنّ هذا النّفع العاجل،،مع تقدير أهمّيته، لا يكفي وحده لاستعادة وهران مكانتها المتوسّطية و لا يؤهّلها للقيام بدورها الوطنيّ و الإقليميّ إذا لم يكن مشفوعًا بجهود أخرى و برامج و سياسات تُعيد إلى وهران حضورها المتوسّطي و تأثيرها الحضاريّ.و لن يتحقّق هذا الأمر الكبير إلاّ بالاستثمار الواعي في عمقها التّاريخي و وزنها الاقتصاديّ و بُعدها الثّقافي و إشعاعها الحضاريّ.

و هذا الهدف الكبير لا تتولَّى إنجازَه و تحقيقه جهة واحدة أو أفراد معدودون و إنّما تلتقي حوله لتجسيده جهود مختلفة و فرقاء مضافًا إليهم أولو النّباهة من أهل الثّقافة و الفكر و البحث و الاختصاص و ذوي المواهب و الرّؤيا و كلّ أولئك مسنود بإرادة سيّاسية واعية و عزم ظاهر و رؤية مستقبليّة واعدة.

 

 

  

الاثنين، 27 يونيو 2022

ابن حمديس الصّقلي في وهران المتوسّطية

ابن حمديس الصِّقلي ( 1055 – 1133 ) كان حاضرًا حضورًا جميلاً مناسبًا في افتتاح الدّورة 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسّط بوهران و كانت الالتفاتة إلى رجل مثله،في هذه الألعاب التفاتة موفَّقة جديرة بالإشادة و الذّكر.فمن هو ابن حمديس الصّقلي ؟

هو ابن عبد الجبّار أبو بكر الصّقلي المشهور بابن حمديس الصّقلي.وُلد و نشأ في مدينة سرقوسة Syracuse في جزيرة صقّلية Sicile التي فتحها العرب المسلمون سنة 826 للميلاد و هي أكبر الجزر في البحر الأبيض المتوسّط و هي تابعة لإيطاليا و هي،أيضًا، أكبر المقاطعات الإيطاليّة التي تتمتّع بالحكم الذّاتي منذ 1946.  

عاش ابن حمديس 24 سنة في صقّلية ثمّ رحل عنها بعد سقوطها في يد النّورمان Les Normands سنة 1079 الذين أنهَوا الوجود العربيّ الإسلاميّ بالجزيرة الذي دام أكثر من 250 سنة.اتّجه ابن حمديس بعد سقوط صقّلية إلى الأندلس و قد كانت مقسَّمة،بعد سقوط الدّولة الأمويّة فيها، إلى 22 دُوَيلة يحكمها ملوك الطّوائف و اتّصل بحاكم إشبيلية المعتمد بن عبّاد الذي أكرمه و آواه و أحسن وفادته و أصبح من مقرَّبيه و من شعرائه المفضَّلين.

و بعد أنْ استولى المرابطون على إشبيلية انتقل ابن حمديس إلى إفريقية،و هي تونس الحالية مضافًا إليها الشّرق الجزائريّ و مناطق من ليبيا، و اتّصل بالصّنهاجيِّين في القيروان.و لمّا اضطربت الأحوال في تونس انتقل إلى بجاية،عند الحمّاديّين، و ظلّ متنقِّلاً بين الأمصار إلى أن وافته المنيّة في جزيرة ميورقة Majorque بالأندلس بعد ثمانين سنة من الحِلّ و التَّرحال.

يُعرف ابن حمديس،في الدّراسات الأدبيّة، بأنه شاعر الغُربة و الحنين إلى الوطن.و قد تغنَّى كثيرًا،في شعره، بوطنه صقّلية أو جَنَّته كما يسمّيها في شعره.و من هذا الغناء و الحنين هذا المقطع الذي نُقل طَرَبًا في حفل الافتتاح الرّسمي لألعاب البحر المتوسّط:

وراءَك،يا بَحرُ، لي جَنّةٌ *** لبستُ النّعيمَ بها لا الشّقاء

إذا أنا حاولتُ منها صباحًا *** تعرَّضتَ من دونها لي مساء

فلو أنّني كنتُ أُعْطَى المُنَى *** إذا منع البحرُ منها اللّقاء

ركبتُ الهلال به زَوْرقًا *** إلى أن أُعانق فيه ذُكاء

ابن حمديس،إذن، هو شاعر الغُربة المتواصلة و الحنين إلى الوطن.و لئن وطئت قدماه أراضي كثيرة و أقام مكرَّمًا في بلدان و أمصار فإنّ حَنينه،و حبَّه أيضًا، ظلّ،دَوْمًا، لأوّل منزل.

و حين يشتدّ حنينُه إلى وطنه الأوّل و جنَّتِه المفقودة يبكيه بكاءً فيُبدع إبداعًا و يصنع هذا القول الجميل الخالد:

ذكرتُ صقّلية و الأسَى *** يُجدِّد للنّفس تَذكارها

فإن كنتُ أُخْرجتُ من جَنّة *** فإنّي أُحدِّثُ أخبارها

و لولا مُلوحة ماء البكاء *** حسبتُ دموعي أنهارَها

و يمكننا،اليوم، أن نرى ابن حمديس الصّقلي بمنظار آخر فقد نجده يمثّل بُعدًا آخر و قيمًا أخرى إذْ هو واحد من نماذج الحضارة العربيّة الإسلاميّة الذي يمثّل نموذج الإنسان المتوسّطي الذي يظلّ متنقِّلاً بين ضفاف البحر الأبيض المتوسّط في سهولة و يُسر رغم الأوضاع المتدهورة و النّزاعات السّياسيّة و القلاقل المختلفة التي كانت سائدة في بلاد الأندلس و في المغرب الإسلاميّ.ثم إنّ البحر،بحر الأبيض المتوسّط، الذي كان يَمنعه لقاءَ وطنه،كما يقول في شعره، هو البحر نفسُه الذي كان يَنقُله إلى أوطان أخرى فيجد فيها بعضَ عَزائه من حنينه و بُعده عن وطنه و يجد فيها بعض سَلْواه من فَقْده جَنَّته.

ابن حمديس الصّقلي،إذنْ، هو نموذج الإنسان المتوسّطي المتنقِّل بين ضفاف البحر الأبيض المتوسّط في سهولة و يُسر رغم الأوضاع الصّعبة و الاضطرابات الكبيرة يؤكّد القرابة هنا و يحقّق التّواصل هنالك و حوضُ البحر المتوسّط هو مطيَّته و وسيلتُه و هو ملاذُه و مَأواه.و إنّ هذه المعاني الجديدة و القيم الجميلة المُستقاة من صميم الحضارة العربيّة الإسلاميّة قَمين بهذه الألعاب المتوسّطية،و بمناسبات أخرى مثلها، أنْ تُشير إليها و تؤكّد عليها حتّى يصبح حَوْض البحر الأبيض المتوسّط بضفافه و انتماءاته و بجميع ألوانه و أذواقه حَوْضًا للتّعارف و التّواصل و فضاءً كبيرًا للتّعايش المشترك و التّبادل المُثمر في ظلّ الأمن و السّلم و الاحترام المتبادل.

  الحوار: 27 جوان 2022 – العدد 4646


اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/