الخميس، 24 فبراير 2022

الأزمة الأوكرانيّة

 

أوكرانيا هي أكبر دولة أروبّية مساحةً: 603.628 كلم مربّع و عدد سكّانها يتجاوز 41 مليون نسمة و هي تقع بكلّيتها داخل القارّة الأروبية.و قد أصبحت دولة مستقلّة سنة 1991 بعد سقوط المنظومة الشّيوعية و تفكّك الاتّحاد السّوفياتي سابقًا.و أوكرانيا عضو في المجلس الأروبّي و هي لا تفتأ،منذ 2013، تطلب الانضمام إلى الاتّحاد الأروبّي لأنّها ستكون،حينئذ، الدّرع الواقي لأوروبّا ضدّ روسيا كما يقول زيلنسكي الرّئيس الأوكرانيّ صراحةً.و هذا السّعي هو الذي تعارضه روسيا  و تعمل على إفشاله و هو سبب الاحتجاجات الدّامية التي بدأت في أوائل سنة 2013.

و أوكرانيا،باللّغة الرّوسية، معناها البلد الحدوديّ.و يُشار إليها،في بعض الكتابات السّياسية، على أنّها دولة عازلة أو دولة حاجزة Buffer State و هو مصطلح بدأ استعماله منذ القرن السّابع عشر في خضمّ سعي الدّول الكبرى،آنذاك، إلى استكشاف الأراضي و الأقاليم و احتلالها.و يعني هذا المصطلح الدّولة التي تقع بين دولتين أو أكثر من الدّول الكبرى المتصارعة.و طبيعة الدّولة العازلة أو الدّولة الحاجزة، حين تكون مستقلّة، أن تتّبع سياسة الحياد لتحافظ على وجودها و تمنع استفحال النّزاعات بين هذه القوى الكبرى التي تنتعش في محيطها.

و لكنّ أوكرانيا بسبب التّاريخ و الجغرافيا و بسبب الاستراتيجيا،أيضًا، اختارت أن تتخلّص من عقابيل ماضيها السّوفياتي و من أوهاق الدّب الرّوسي و أن تكون قبلتها هي أروبّا و أن يصبح مستقبلها هو الانضمام إلى الاتّحاد الأروبّي و الحلف الأطلسيّ و هو أمر منصوص عليه في دستورها.و هذا هو أحد أسباب فصول مأساتها التي لم تَنته منذ 2014 حين أقدمت موسكو على احتلال جزيرة القرم الأوكرانيّة ذات المنافذ البحريّة و ضمّها إلى السّيادة الرّوسية.      

و إنّ الصّراع الذي يتصاعد،هذه الأيّام، و تشتدّ حدّته على أنقاض الأزمة في أوكرانيا له علاقة مباشرة بهذا البلد لأنه مركز هذا الصّراع و مسرحه.و لكنّ له علاقة وثيقة،أيضًا، بالصّراع حول ترتيب الأوراق و توسيع مناطق النّفوذ في أوروبّا عمومًا و في أروبّا الشّرقية خصوصًا بين الحلف الأطلسيّ بقيادة الولايات المتّحدة من جهة و روسيا الاتّحادية ذات الأطماع القيصريّة من جهة أخرى.و إنّ الأحداث المتسارعة و الماضي بحمولته و المستقبل بتطلّعاته و مخاوفه و الجغرافيا  و الاسترتيجيا كلّ أولئك هو الذي جعل أوكرانيا،هذا البلد الكبير في أروبّا، ساحة كبرى تُدَقّ فيها طبول الحرب و تستعلن هذه الإرادات المتصارعة.

و لفهم أسباب ما يجري،اليوم، ينبغي العودة إلى سنة 2013 حين قامت الحكومة،التّابعة لموسكو آنذاك، بإلغاء اتّفاق شراكة سابق مع الاتّحاد الأروبّي و تعويضه باتّفاق مع روسيا.و أعقب هذا الإلغاء حركاتُ احتجاج شعبيّة واسعة دامت أكثر من 90 يومًا اتّهمت روسيا القوى الغربيّة بإشعالها و كان حصيلة هذه الاحتجاجات الشعبيّة أكثر من 100 قتيل وسقوط الحكم الموالي لروسيا.و في جوان 2020 أصبحت أوكرانيا واحدًا من ستّ دول مؤهَّلة للانضمام للحلف للأطلسيّ و تضاعف،منذ ذلك الحين، التّعاون العسكريّ بين حلف النّاتو و أوكرانيا.

و في ظلّ هذه الأجواء المشحونة بالتّوجس و الشّكوك و الحذر طالبت روسيا بضمانات مكتوبة يتعهّد فيها الحلف الأطلسيّ و الولايات المتّحدة بتجميد توسّع الحلف شرقًا و انسحاب القوّات الغربيّة من دول أوروبّا الشّرقية وإعادة الأسلحة النّووية الأمريكيّة المنتشرة في أوروبا و قامت،في الوقت نفسه، بنشر قوّات عسكريّة كثيفة مع معدّات ثقيلة على حدودها مع أوكرانيا منذ نوفمبر الماضي.و الذي زاد هذه الأزمة تعقيدًا إعلان روسيا الأخير الاعتراف بمقاطعتَي الدّومباس ذواتَي الانتماء الرّوسي و الواقعتَين تحت السّيادة الأوكرانيّة و اللّتين كانتا قد أعلنتا انفصالهما عن الحكم المركزيّ منذ 2014.

و إذا كان بعض المحلّلين يستبعدون قيام روسيا بغزو الأراضي الأوكرانية فإنّ إعلانها الاعتراف بمقاطعتَي الدّومباس الانفصاليّتَين و ضمّهما إلى سيادتها يُعَدّ انتصارًا كبيرًا فاجأ الولايات المتّحدة و الأروبّيين اللّذين ليسا مستعدَّين للقتال من أجل أوكرانيا التي ستواجه وحدها شتاء طويلاً باردًا.

و في انتظار أن تحقّق روسيا القيصريّة أو روسيا السّوفياتية المتَّهَمة بمحاولة تفكيك المنظومة الأمنيّة في أروبّا انتصارَها الآخر الذي تتطلّع إليه و تحصل على ضمانات مكتوبة أو ضمنيّة غير معلنة أو تمنع بالقوّة العسكريّة توسّع الحلف الأطلسيّ في مناطق نفوذها التّاريخي فإنّ الأزمة الأوكرانيّة تثبت،مرّة أخرى، أنّ القوّة،و القوّة وحدها، هي التي تحكم العلاقات الدّوليّة في عالم مضطرب لا مكانة فيه للمتردّد و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار طواعيّته و استسلامه.

https://www.elhiwar.dz/journal/226985

  

 

    




السبت، 18 ديسمبر 2021

اللّغة في العصر الحديث

تحتاج المسألة اللّغوية إلى وِقفة متأنّية و تحليل هادئ بسبب ما يَنشأ عن بحثها،في أحايين كثيرة، من عواطف جارفة و مواقف مُتكلِّسة و انفعالات.و يمكن القول،ابتداءً، بأنّ اللّغة ليست حياديّة دائمًا،أو هي ليست حياديّة تمامًا، لأنها تحمل قِيَمًا و تسوق أفكارًا و موازين.و إنه لَيصعُب،في أوضاع عديدة، فصل اللّغة،و هي وسيلة للتّواصل و التّعامل، عن» حَمولتها « أو عن » شُحْنتها «.و الذي أعطى اللّغة كلّ هذه الأهمّية و أحاطها بنوع من الهالة و التّقديس أنها لصيقة بالذّات و بسيادتها و بوجودها في العالم.و لعلّه،لهذا السّبب، قد ارتبطت ارتباطًا شديدًا بالسّياسة و المصالح الاقتصاديّة و استُعملت أداة فعّالة لتحقيق التّوسع و بسط مناطق النّفوذ.

و إنّ العصور الحديثة بما شهدته من صراع على مناطق النّفوذ و الأسواق و بما واكبها من صراعات على الهُويّة و إثبات الـذّات في وسط عالم لا يعترف إلاّ بمنطـق القـوّة و السّيطرة و القهر و الاستعلاء و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار خضوعه و طواعيّته و استسلامه...إنّ عصورًا هذا شأنُها و عالَمًا هذا حالُه قد أعطى اللّغة بُعْدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها سلاحًا خطيرًا يوازي في آثاره أسلحة الفتك و الدّمار الأخرى.و لم تَعُـد اللّغـة هـذه الوسيلـة الحيـاديّـة التي تحقّق تواصل النـّاس و تعارفهم و تنظـّم علاقاتهم و تقرّبهم بل أصبح لها شأن آخر و أيُّ شأن !

كلّ هذه الأوصاف،إذن، هي التي أعطت اللّغة بعدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها موضع عناية و اهتمام فائقَيْن.

و لكنّ اللّغة إذا كانت بهذه القيمة و هذا الوزن فما ينبغي أنْ يتحوّل النّشاط لها و الموقف تجاهها و العناية بها إلى نوع من الحساسيّة المَرَضِيّة و التّطرف الأعمى كاللذَين نلمسهما في مواقف بعض المؤسّسات الفرنسيّة الرّسمية كالفرنكفونيّة التي تمارس سياسة الإقصاء و التّهميش ضدّ اللّغات الأخرى لتحقيق السّيطرة المطلقة للّغة الفرنسيّة و ثقافتها خدمةً لأهداف سياسيّة و اقتصاديّة.

و قد أصبحت اللّغة الفرنسيّة أداة قهر و إذلال تتبنَّى كلّ وسائل المكر و الخبث و الاستئصال ضدّ لغات بعض الشّعوب و آدابها حين أعطتها الفرنكفونيّة مفهومًا سياسيًّا و طابعًا استعماريًّا » لا يَقبل واقع تطوّر الأشياء (...) من أجل استعمالها كوسيلة للتّفاوض من أجل إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه و منع التّغيير في بعض البلدان بل أكثر من ذلك استعمالها كوسيلة لمحاربة اللّغات الوطنيّة و اللّغات الأم...« كما يقول المهدي المنجرة في كتابه ( الحرب الحضاريّة الأولى ).

و ليس بخافٍ أنّ » مشكلة اللّغة « أو » مشكلة اللّغات « حاضرة في العلاقات الدّولية المعاصرة.فالصّراع،مثلاً، قائم بين الإنجليزيّة و الفرنسيّة و هو يتّخذ أشكالا مختلفة و مظاهر.و هذا الصّراع نفسه تشهده بعض هياكل الاتّحاد الأروبّي: فالفرنسيّة،كعادتها، تبغي الوجود المُهيمِن و السّيطرة على كلّ المجالس و الهيئات و اللّغات الأروبيّة الأخرى تطالب،هي كذلك، بحقّها في الوجود و الاستعلان.و هذا الصّراع اللّغوي ثابت قائم و لكنّ الدّول الكبرى تحرص على إخفائه و التّهوين من قيمته و شأنه لأنّ إظهاره و جلاءه قد يشجّع دول العالم الثالث الواقعة تحت وطأة الغرب الحضاريّة و يدفعها إلى المطالبة بحقوقها الثقافية و اللّغوية و هذا ما يخشاه الغرب و لا يسمح به لأنه إيذان بنهاية سيطرته و إعلام بزوال قيادته.

إنّ خلاصة ما يمكن التّأكيد عليه،في هذا المقام، أنّ أيَّ موقف من اللّغة و كلّ سياسة توضع لحمايتها و صيانتها ينبغي أنْ تَضع في الحُسبان أمرَين اثنين أساسيَّين: أوّلهما أنّ اللّغة مسألة سـيادة و إثبات للذّات و تأكيد للوجـود و أنّ العبث بها هـو عَبَث بهذه السّيادة و إفناء للذّات و إلغاء لهذا الوجود.و ثانيهما أنّ العناية باللّغة الأمّ و صيانتها لا يَعني تهميش اللّغات الأخرى أو ضرب الحصار حولها أو مطاردتها.و كلّ سلوك من هذا القَبيل هو من الحساسيّة الزّائدة و التّطرف الأعمى و هو،قبلُ، مُصادم لهذا التّنوع و الاختلاف اللّذَين يقوم عليهما الكون و العالم.  

و بمناسبة اليوم العالميّ للّغة العربيّة فإنّ أسئلة جادّة من هذا القَبيل تَقِفُنا: ما هو حال اللّغة العربيّة اليوم ؟ و لماذا استحالت لغةً ميِّتة أو منبوذة يَتجهَّمها أهلُها قبل الأباعد و الخصوم ؟ و ما الذي كتب للّغة العربية ذلك الذّيوع و الانتشار إبّان الحضارة العربيّة الإسلاميّة ؟ و ما الذي جعلها تحظى بذلك القَبول و تفوز بتلك المزيّة بين شعوب البلاد المفتوحة فتصبح لغتهم الأولى ؟ و ما هي الأسباب التي هيّأتها لهذه المكانة و حقّقت لها هذه الهيمنة و السّيادة فأصبحت لغة عالميّة تَستوطن القلوب و العقول قبل أن تسكن بطون الكتب و المجلّدات و صفحات المعاجم و الموسوعات ؟

هل هو الإسلام الذي نزلت كلمتُه الخاتمة متلبِّسةً بهذه اللّغة و ناطقة بها ؟ لا اعتقد ذلك لأنّ هذا الدِّين لا يزال قائمًا إلى اليوم و يَفوق عدد أتباعه المليار نسمة و ليس هناك لغة منفيّة بين أهليها أو مُهانة بين الأباعد كما هو حال اللّغة العربيّة التي تَلقى مِن مظاهر الازدراء و الإقصاء و التّهميش ما تَلقى.

هناك،إذن، أسباب أخرى و عوامل مختلفة هي التي صنعت للّغة العربية دعائم انتشارها و أُسس تفوّقها و هيّأتها لهذا الدّور العالميّ الكبير الذي قلَّما حَظيت به لغة أخرى مِن قبلُ و من بعدُ.و هذه الأسباب الموضوعيّة يَحسُن بنا اليوم،و نحن في الألفيّة الثالثة، أن نقف عندها وِقفة متأنّية لنبحثها و نحلّلها و،كذلك، لنختبرها و نَبْتليها علَّها تُكون عَونًا لنا في استبانة الأمور و وضوح الرّؤيا و تحقّق،لَدَينا، وعيًا جديدًا نتسلّح به لاستدراك ما فاتَنا من أمورنا في شؤون اللّغة العربيّة و في أمر نهضتها.

إنّ اللّغة انعكاس للمستوى الحضاريّ لأيّ أمّة من الأمم و مرتبطٌ وضعُها بوضع أهلها النّاطقين بها و هي،كذلك، صورة حقيقيّة لهذا المستوَى قوّةً و ضعفًا و صعودًا و هبوطًا.و أحبّ أنْ أُضيف،إمعانًا في الوضوح و البيان، أنّ صحّة اللّغة و اعتلالها و قوّتها و ضعفها و نموّها و ضمورها و إشعاعها و طموسها و جاذبيّتها و شحوبها و حيويّتها و ترهّلها و انتشارها و انكفاءها...كلّ أولئك إنّما هو ناشئ،ابتداءًا، ممّا يَلحق أهْلِيها النّاطقين بها من صحّة و اعتلال و قوّة و ضعف و حيويّة و ترهّل في حياتهم العامّة و الخاصّة و في جملة أحوالهم النّفسية و الفكريّة و العلميّة و الثّقافية و في مجموع أوضاعهم السّياسية و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة...

و إنّ هذا المستوى الحضاريّ التي سبقت الإشارة إليه هو الذي تَمثّل في نفوس العرب و المسلمين الفاتحين فجعلهم جديرين بالسّيادة و جديرين بقيادة البشريّة و جَعَل أفئدة من الناس تَهْوي إليهم و تَخْطُب وُدّهم و تُذعن لهم و تحتضن دينهم و تتبنّى لغتهم.و إنّ أظهر عنصر في الحضارة العربيّة بل إنّ أكبر تَجَلٍّ لهذا المستوى الحضاريّ الفائق إنّما هو تلك الرّوح التي غرسها الإسلام في نفوس العرب و المسلمين حين وَجد قلوبًا ملتهبة تحتضنه و عقولاً نيِّرة تستوعبه و نفوسًا كبارًا ترتقي،على الدّوام، إلى عظمته و مستواه.و بسبب هذه الرّوح المُهيمِنة الغالبة فإنّ شيئًا لم يقف في طريق هذه الحضارة أو يمنع سيرها حين طفِقت،في الأقاليم و الأراضين، تَندفع وتتوسّع و تتمدّد و تستطيل.

إنّ هذا المستوى الحضاريّ و مظاهر الغَلَب و ملامح القوّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة هي التي كتبت الذّيوع  و الانتشار للّغة العربيّة و أهّلتها لأنْ تكون اللّغة العالميّة ذات المكانة و الحضور و الهَيبة و الاعتبار.

و إذا كان ابن خلدون قد أثبت « أنّ المغلوب مُولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره و زيّه و نِحْلته و سائر أحواله و عوائده...» فإنّ هذا الأمر قد تحقّق بنصيب كبير للعرب الفاتحين إذْ كانت لهم الغلبة حضاريًّا ولم يكن مِن بُدٍّ،حينئذ، أنْ تخضع لهم شعوب الأرض قاطبةً خضوع التّلميذ للأستاذ فتتبنَّى دينهم و لغتهم و ثقافتهم و جلَّ شعارهم و أزيائهم و أذواقهم.          


الجمعة، 10 ديسمبر 2021

في ذكرى الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان

                                           

يحتفل العالم،هذه الأيام، بالذّكرى 73 لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كلّ عام.و إذا ذهبنا،اليوم، نبحث عن مِصداق لهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد 73 من صدوره و نتحقّق من فاعليّته و جدواه و نتأكّد من رصيده في حياة الناس و مغزاه فماذا نحن واجدون ؟ لا شيء.أو فَلنقُل إنّا واجدون كلّ شيء مؤلم محزن و مدمِّر و مُميت.

لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتّع بحقّ الفيتو في مجلس الأمن و دول أخرى تسير في ركبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعًا باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس و في الأجيال المتعاقبة و في البيئة و في كلّ مكان.و بعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا تزال بنوده،رغم دلالاتها الواضحة و القطعيّة، تُفسّر تفسيرات عديدة متحيِّزة و تُشرح شروحًا مُوجَّهَة تبعًا لأهواء الدول الكبرى و مصالحها المختلفة و أهدافها الاستعمارية.

و إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالميّة و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتَها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم و أقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948.و كأنّ ميلاد هذا الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مبتغاه.

فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟

و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق،سابقًا، و يحصل في غزّة،اليوم، و في فلسطين.

و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في كلّ مكان كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.

و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية التي يتفنّن فيه الغربيّون و الاعتداءات الجنسية الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.

و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارهم و مأواهم و يسلبهم أسباب الرزق و يحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما يحدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.

و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يحزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا و دماء الضّعفاء و المنبوذين قاطبةً،في العالم، الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَنطق و يصرخ و يَعد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تُهان الأقليّات المسيحيّة أو الأقليّات الأخرى التي تخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.

إنّ الجرائم التي ارتكبها الغرب باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و باسم قيم الحرّية و العدالة لا تُعدّ و لا تُحصى.فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربيّة في الفيتنام و أفغانستان و في باكستان و الصّومال و العراق و قبل ذلك في هيروشيما و ناغازاكي في اليابان...و هذه الجرائم قد أتَت على الأخضر و اليابس و لا يزال النّاس،إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم و عقابيلها و دمارها.أمّا فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتلّ الصّدارة في تاريخها الاستعماري الأسود.و لا تزال فرنسا إلى اليوم دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت و تصنع الدّمار،في إفريقيا و في كلّ مكان، و تمارس الإرهاب الدّولي باسم حقوق الإنسان و قيم الحرّية و العدالة و المساواة تحقيقًا للسيطرة و التّملك و الإذلال.و قد بلغ القبح و الافتراء بفرنسا،بلد الحرّيات، حدًّا لا يُطاق فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فيفري/شباط سنة 2005 الذي يمجّد الاستعمار الفرنسيّ و يُشيد بمنافعه و بمزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له !

و الذي يُقضَى منه العجب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانيّة الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربية و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربية فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تعنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القهر و الإرهاب و الاستئصال.و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا حاقدًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يَجِنّ جُنونهم،كما يقول المؤرّخون، فيحرقون و يدمّرون و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين يختلفون عنهم و لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبة في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.و إنّ المتأمّل في الأحداث المعاصرة لا يفوته ملاحظة أنّ الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه،دائمًا، الرّغبة الأمريكية و الأروبية في استعمار الدول و إذلال شعوبها و كثيرًا ما تتّخذ مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وسيلةً لغزو مجتمعات العالم الثالث و تفكيكها أو تغيير ثقافتها و نمط الحياة فيها و أساليب التفكير.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ببنوده الثّلاثين التي احتواها كان ممكنًا أنْ يحقّق بعض العدالة و الحرّية و بعض الكرامة و المساواة و يقضي على بؤر التّوتر في العالم و يخفّف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الضّعفاء و المحرومين فوق هذه الأرض.و لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق لأنّ الكبار المنتصرين،بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و سطّروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية و العدالة و الحقّ و المساواة و الكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم أو أنْ تسود.و كيف يفعلون ذلك و هم أوّل من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة و أوّل من يدوسها و يُهينها و أوّل من يقتلها و يُفنيها ؟

هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان بالضغوط المختلفة و الإملاءات و استعمال القوة و الإرهاب.و هذا هو واقع الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد 73 سنة من صدوره و هذا هو التّلاعب الذي لحقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخراب و الدّمار الذي أُنجز تحت لوائه.

و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد و أنْ يستعيد الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان فاعليّته و جدواه حين تستعيد شعوب الأرض المُحبّة للسّلام زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ هذا الإعلان العالميّ سيظلّ مبرِّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال و وسيلة للقهر و الإذلال و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضرُّها أكبر من نفعها.


الجمعة، 26 نوفمبر 2021

الغَيث و القُنوط


الغَيث هو المطر أو هو الخاصّ منه بالخير.و هو،أيضًا، السّحاب أو الكلأ يَنْبت بماء السّماء.و من مادّة الغَيث صُنِع الغَوْث و هو طلب النّجدة و النّصرة و كشف الشّدة.   أمّا القُنوط فهو شدّة اليأس و من مادّته صِيغ القَنْط و هو المَنْع.

و الغَيث و القنوط ظاهرتان بارزتان في الوجود و يتعاقبان في الكائنات و الأحياء تعاقب اللّيل و النّهار.إنّ الغَيث الذي يصيب الأرواح و النّفوس فيُحْييها بعد مَوات و يَشفيها بعد أَسقام فَتعُود فرحتُها و تَزهُو عواطفها و تَنْتَشي و تزداد كالغيث الذي ينزل على الأراضي و الأقاليم و الآكام و الآجام فيُنْعشها و يَسقيها و يُثمرها و يَنْمِيها.

و إنّ القنوط الذي يَحْبس الأنفاس و يُولِّد الحزن و العَجز و يُلبِّد العواطف و يَشُلّ التّفكير و يمنع الحركة و التّواصل ليس سوى قدَر من أقدار الله مؤقَّتٍ محسوب يُدفَع بالضّراعة و المناجاة.

و إنّ الغَيث الذي يُؤْنس الرّوح و يجدِّد الحياة و يصنع البهجة و النّماء هو رحمة من الله و نعمة و مِنّة و فضل قَمينٌ مقابلتُه بالحمد و التّسبيح و التّكبير.

الغَيث و القنوط،إذن، يتعاقبان فينا تعاقب اللّيل و النّهار بقدر محسوب و نصيب مفروض.و إنّ الزَّحْمة التي تكابدها النّفس حين القنوط و الفرحة التي تَهَشّ لها الرّوح حين الغيث قدَران متلازمان يجعلان شعورنا بالحياة شعورًا عميقًا لا سطحيًّا كما يجعلان موقفنا من تقلّباتها موقفًا متوازنًا لا مضطربًا و يَمْنَعانِنا،في الوقت نفسه، من الاستسلام لدواعي اليأس و التّمزق و الانقطاع حين يُعيدانِنا إلى قدرة الله القاهرة « الذي يُنزّل الغَيث من بَعْد ما قَنطوا و يَنشُر رحمته و هو الوليّ الحميد ».    


الاثنين، 18 أكتوبر 2021

محمّدٌ رسولُ الله...

لقد استمعتُ،في بعض الأحيان، إلى بعض الخطباء في المساجد أو في النّدوات أو في وسائل الإعلام و هم يتحدّثون عن شخصيّة محمّد صلّى الله و سلّم فلم أجِد لكلامهم صدًى في نفسي و لم أشعر بارتباط قويّ أو بصلة حيّة بيني و بين السّيد الجليل محمّد بن عبد الله و كأنّهم يتحدّثون عن شخص بعيد لا أعرفه أو عن قريب لا أذكره.إنّهم يتحدّثون عن شخصيّة محمّد صلّى الله و سلّم حديثًا باردًا باهتًا ناقصًا غير مَكمول لا يتناول الأبعاد المختلفة لهذه الشّخصيّة و لا يكشف عن عُمق إنسانيّتها و عِظم عطائها و ضخامة مسارها.و يَقوَى الاعتقاد عندي أنّ تخلّف هذا الخطاب عن الأداء الجميل و قصوره عن بلوغ الغاية في هذا الموضوع سببُه أمران اثنان.

أمّا الأمر الأوّل فإنّ معظم هؤلاء الخطباء و الأساتذة لا يتحدّثون،كما هو مَأمول، عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم الإنسان الذي كان يأكل الطّعام و يمشي في الأسواق و يعيش إنسانيّته كاملةً غير منقوصة.و بعبارة أخرى فهُمْ لا يتحدّثون عن سلوكه و أعماله داخل البيت مع أهله و أزواجه و طعامِه و شرابه و زِينته و لباسه و لا يتحدّثون عن مواقفه و أحواله خارج البيت مع أصحابه و أقربائه و مع خصومه و أعدائه و في سياسته و اقتصاده و في حَربه و سِلمه و في غَضبته و حِلمه و في فرحته و حزنه و في سائر حركته و سُكونه.

إنّ غالبيّة الذين يتحدّثون عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم يتوسّعون في الجانب الرّسالي لهذه الشّخصية العظيمة و يُغفلون أو يقصّرون أو يَستنكفون،ابتداء، عن الوقوف عند جانبها الإنسانيّ و كأنّهم يجدون حَرَجًا أو لا يَرَون لهذا الأمر من فائدة تُجْنَى أو أهمّية تُرتَجَى.و  لقد فاتَ هؤلاء السّادة أن يُدركوا أنّ الجمع بين الجانبين كليهما هو الصّواب و هو المأمول و أنّ تناول هذه الشّخصيّة العظيمة في بُعدها الإنسانيّ التّرابي الذي ننتمي إليه و في بُعدها الرّسالي الغَيبيّ الذي نتطلّع إليه هو الذي يُسهِّل اقترابنا من شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم حين تصبح،في وعينا و في حضورنا، شخصيّة إنسانيّة متميّزة تتعايش مع الملأ الأدنَى بكامل إنسانيّتها و تتواصل،في الوقت نفسه، مع الملأ الأعلى بفَيْض روحانيّتها.و مثلُ هذا المنهج الذي يتناول شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم على أنّه إنسان كامل الإنسانيّة يمارس إنسانيّته كاملةً فوق الأرض و رُوحُه سابحة في عالم الغَيب و الملكوت هو الذي يجعل،أيضًا، بيننا و بين محمّد بن عبد الله إنسانًا و رسولاً صِلةً حيّة و نَسَبًا قويًّا فنكون،حينئذٍ، أقرب إليه من أنفسنا حبيبًا إلى ذواتنا نتأسَّى به و نتّبعه.

و أمّا الأمر الثّاني فإنّ أيّ حديث عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم لا يُزهر و لا يُثمر إلاّ إذا كان الحبّ هو لغته و هو مادّته و هو وسيلته.هذا الحبّ الذي كان هو صلّى الله عليه و سلّم  منبعه و مصدره و كان هو،أيضًا، مَجْلاه و مظهره.

و لقد استمعتُ،يومًا، إلى أحد المُدمنين على الخمر و هو يتحدّث،في صَحْوه، عن شخصيّة النّبي صلّى الله عليه و سلّم فاستجابت لحديثه روحي و رقَّتْ نفسي و تحرّكت عواطفي و حينئذٍ تأكّد لديَّ،من جديد، أنّ المظاهر ليست مخابر و أنّ الحبّ مطيّة و مفتاح و أنّ الحبّ لا يكون،دائمًا، في المكان الذي يُظَنّ وجودُه فيه و أنّ الذي ذاق حجّةٌ على الذي لم يَذُق. 

إنّ الحبّ،في هذا المقام و في كلّ المقامات، هو الذي يختصر المسافات و يَكسر العقبات و يُزيل الغشاوات و يَهَب صاحبه روحًا متوقِّدة تُؤْتَى القدرة على الوصول إلى المعرفة الصّحيحة و بلوغ الفهم الجميل و تحقيق التّواصل العميق و شفافيّةً تصحّح الرّؤيا و تُعلن ما خَفِي و تكشف ما بَطَن.

محمّد رسول الله...الجانب الإنسانيّ التّرابي و الجانب الرّسالي الغَيبيّ كلاهما متضَمَّنٌ في اسمه و لقبه: محمّدٌ الاسمُ الذي يدلّ على الإنسان و أصله التّرابي.و رسولُ الله اللّقبُ الذي يشير إلى الرّسالة و بُعدها الغَيبيّ.و هذا الجانب الإنسانيّ التّرابي و الجانب الرّسالي الغَيبيّ كلاهما منصوص عليه في القرآن رَسْمًا و معنًى.

و إذا كان الجانب الإنسانيّ و الجانب الرّسالي الغَيبيّ قد امتزجا امتزاجًا قويًّا في شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم مدّة ثلاثة و عشرين عامًا فإنّ تضخيم هذا الجانب على حساب الآخر أو طَيّ أحدهما و نشر الآخر يَحجب الرّؤيا و يُشوّش الفهم و يَأفكُنا عن الإحاطة بأبعاد هذه الشّخصيّة العظيمة و حركتها الضّخمة في مجالها الكونيّ الحيويّ الكبير و هو،من قبلُ و من بعد، منهج خاطئ و سلوك مخالف لروح النّص القرآنيّ الذي رفع منزلة محمّد النّبي العربيّ بين سائر الأنبياء و الرّسل فكان نَسيجَ وَحْدِه و أشاد بإنسانيّته السّامقة و روحانيّته الفائقة. 



 

السبت، 9 أكتوبر 2021

القمّة 28 لمنتدى فرنسا- إفريقيا: تجديد الهيمنة و استعادة النّفوذ

                             

  افتُتحت يوم الجمعة 08 أكتوبر 2021في جنوب فرنسا، أشغال القمّة 28 لمنتدى إفريقيافرنسا بحضور أكثر من 2000 مشارك منهم 700 من إفريقيا.و لم يُدعَ لهذه القمّة أيّ رئيس في إفريقيا أو أيّ سلطة رسميّة أخرى و هذا هو الأمر الجديد،في هذه القمّة، الذي لم يحدث منذ سنة 1973.أمّا المشاركون فهم فئات من الشّباب من إفريقيا و فرنسا من قطاعات مختلفة كقطاع الأعمال و الثّقافة و قطاع الرّياضة و الفنّ و الإبداع...يتبادلون المواقف و الأفكار في مواضيع محدّدة كالتّعليم العالي و البحث و الابتكار و الثّقافة و الرّياضة...و تستهدف هذه القمّة،كما أُعلن عنه رسميًّا، التّفكير في الآليات الجديدة التي ينبغي تبنّيها لتجديد العلاقة بين فرنسا و إفريقيا و الإجراءات القادرة على إعطاء نفَس جديد لهذا التّجمع السّياسي.

هذا هو الظّاهر عن هذه القمّة و المكشوف منها فما الذي وراءها من خفايا و مدسوس ؟

إنّ هذه القمّة و صيغتها الجديدة و الفئات التي استهدفتها و المحاور التي تناولتها لا يمكن فهمها جيّدًا و تحليل أسبابها و أبعادها إلاّ في إطار المتغيّرات الكبرى التي تحدث على المستوى الإقليميّ و الدّوليّ.و يمكن توضيح هذا الأمر في بعض النّقاط التّالية:

1- تستهدف هذه القمّة بصيغتها الجديدة،في المقام الأوّل، البحث عن عذريّة جديدة لفرنسا بعد موجات الاحتجاجات الشّعبيّة الكبرى ضدّ سياساتها،في إفريقيا، القائمة على السّلب و النّهب و التّدخل السّافر و صناعة التّخلف و الفقر و التّبعية و التّجهيل...

2- تغييب فرنسا لرؤساء الدّول و الهيئات الرّسميّة الإفريقيّة عن هذه القمّة هو محاولة لتلميع صورتها و كسب نوع من التّعاطف لدى الشّباب الإفريقيّ و هيئات المجتمع المدنيّ،في إفريقيا، باستحداث « قمّة معكوسة » تشارك فيها فئات من هذه المجتمعات لم تكن تحظى،من قبل، بالتّمثيل و الحضور.و هي تتوسّل لبلوغ هذه الغاية بالقوّة النّاعمة ذات التّأثير الخفيّ الواسع المضمون على المديَين المتوسّط و البعيد.  

3- تجيء هذه القمّة بصيغتها الجديدة بعد تنامي الحضور الأجنبيّ المنافس في القارّة الإفريقيّة    و منطقة البحر الأبيض المتوسّط و المتمثّل في التّوسع الصّيني الذي يتمدّد مقابل المليارات و الاستثمارات و كذلك النّفوذ الرّوسي و التّركي الذي بدأ في التّقوي و الاستعلان.

إنّ هذه القمّة بصيغتها الجديدة،كالقمم التي سبقتها، لن تغيّر من موقف الشّعوب الإفريقيّة من فرنسا و لن تجدِّد شيئًا في العلاقة بين فرنسا و إفريقيا لأنّ مشكلة فرنسا الأولى هو هذا الفكر الاستعماريّ التي لا يزال يحكم سياستها الخارجيّة و علاقاتها المختلفة مع دول إفريقيا و الذي كان سبب كثير من الحُطام و الخراب الذي لحق هذه القارّة.

إنّ القمّة الثّامنة و العشرين لمنتدى فرنسا- إفريقيا ليس بحَدث يُؤَمَّل شيء من ورائه لأنّه محاولة للتّلهية و التّخدير و محاولة لتجديد الهيمنة و استعادة النّفوذ 

                                                  
                               
  

الاثنين، 4 أكتوبر 2021

الخَلق المستمرّ

الحياةُ حياتان: حياة عاديّة سطحيّة باردة كئيبة لا بَنَّةَ لها و لا طَعمَ و لا لون    و هي شبيهة،إلى حدّ كبير، بحياة القطيع و الحيوان.و هنالك الحياة الأخرى التي تُشْبِعُك و تَستَوعبُك و تملأ أعصابك و خلاياك حين تقوم بتوليد المقاصد و تجديد الغايات و تكون أنت و كَينونتك في خَلْق مُستمرّ فتذوق مِن العواطف القويّة ما تَذوق و من الآلام الكُبرى و اللّذات و ما يَنشأ عن هذه و تلك مِن معانٍ و دلالات و ما تُخلِّفه،هذه التّجارب و الأحداث، مِن آثار و عَقابيل أو ما تُرسِّخه،في أعماق النّفس، من قوّة و إيمان و رجاحة و اكتمال و بَصيرة و إبصار و عِناد و تَصميم...

حين تكون حياتُك هي خَلْقٌ مستمرّ في كلّ وَضْع و حِين: في الصّباح و المساء و في اللّحظة و ما بَعد الحِين و في اليوم و الغَد و في الصّحة و المرض و في الفَقر و الغِنَى و في الوَجْد و الفَقْد و في النَّهضة و السّقوط و في الخَلْوة و الجَلْوة و في الفَرحة و الحزن و في اللّذة و الألم...

و حين تكون تَجلِّياتُ هذا الخلق المستمرّ غالبة في الشّعور و الوجدان و في الهواجس و الخواطر و في الخَفايا و الحَنايا و طافحة في المواقف و الأفكار و في المقاصد و النِّيات و في العزيمة و الإرادات...

حين تكون حياتُك هي هذا الخلق المستمرّ في كلّ الأزمنة و الأودية و في كلّ الأوضاع و الأحوال و تكون تَجلِّياتُها غالبة طافحة فإنّها تكون،حينئذ، حياةً أكبر من مجرّد حياة و أعمق سَيلاً و أكثرَ جاذبيّة و أوسعَ تأثيرًا.

و هذا الخلْق المستمرّ هو الذي يَخْلُقك،دائمًا، خَلقًا آخر و هو الذي يَهَبُ لحياتك طَعمًا و بنَّة و لَونًا و هو الذي يُجدِّدك و يُؤكِّدُك و هو الذي يُحْييك و يُنمِّيك

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/