صدر
في 25 أوت الماضي كتاب ( السّحر الخفيّ للمسلسلات ) Le Charme discret des séries لصاحبته فيرجيني مارتن.و
تتناول الكاتبة،في هذه الدّراسة، ذلك السّحر الخفيّ الذي تمارسه علينا المسلسلات كما تقوم بتفكيك الآليات
المختلفة و الأساليب التي تجعلها تؤثّر في تفكيرنا و في يوميّاتنا فنُدمن عليها و
نستسلم لها في سهولة و يُسْر.و لم يَفُت الكاتبة،أيضًا، أن تُحيطنا
علمًا بالجانب الآخر للمسلسلات و المتعلّق بكتّاب السّيناريوهات و التّمويل و
القيم و الأفكار المقصود نشرها و تسويقها.و
قيمة هذا الكتاب أنه لم يَقف عند المسلسلات الأنجلو ساكسونية أو الغربية فقط بل
تعدّاها إلى المنتجات البرازيلية و الكوريّة الجنوبية و اليابانيّة و التّركيّة و الهنديّة.
و
يمكن القول بأنّ للمسلسلات تأثيرًا خاصًّا على
المشاهدين يختلف عن ذلك التّأثير النّاشئ من الأفلام.و لذلك أصبحت تحظى
بنصيب كبير من الإنتاج التّلفزي و السّينمائيّ في كلّ الدّول.و لم تتخلّف منصّات
التّدفق و البثّ المباشر المُهَيمنة مثل netflix, disney+, amazon prime
video… عن الاهتمام بهذا النّوع من الإنتاج لأنه أصبح سلعة رائجة يمكن من
خلالها نشر الأذواق و الألوان و تفسير الحوادث و الظّواهر و إعادة صياغة العقول
وفق النّظرة الأمريكيّة و الغربيّة
للكون و العالم.
و بعيدًا عن محتوى هذا الكتاب يمكن القول
بأنّ المسلسلات،خلافًا للأفلام، تتميّز بقدرتها
الهائلة على امتلاك المشاهد امتلاكًا فتجعله مشاهدًا مَهووسًا و مدمنًا بليد الحسّ
مشلول التّفكير فتتحكّم،حينئذ، في وقته و في أعصابه تحكّمًا حقيقيًّا و تصنع
اهتماماته و تصوغ أفكاره المختلفة عن الحياة و المجتمع و الكون و العالم.
و اللاّفت
للانتباه في المسلسلات أنّها تستطيع اختراق وعي جموع المشاهدين و التّأثير في
عقلهم الباطن ثمّ إعادة تشكيله و صياغته بصورة عجيبة و بأسلوب فريد لا تستطيعه
الأفلام و لا هو في مُكْنتها.
و تلجأ المسلسلات لتحقيق هذا الغرض إلى التّوسل بأساليب كثيرة منها
الإثارة المختلفة و صناعة الأحداث المتناقضة و التقلّب السّريع للشّخصيات و تبادل
الأدوار و جعل غير الممكن واقعًا ممكنًا بالاعتماد على عنصر المفاجآت التي لا
تنتهي و إعلان السّيطرة الكاملة للعواطف و النّزوات و اختفاء قيم المعقوليّة و المسؤوليّة...فلا
شيء يَهُمّ في النّهاية سوى الظّفر بالشّيء و حيازته و تحقيق التّألق و النّجاح بأيّ كيفيّة و بأيّ
أسلوب.
إنّ
هذه المسلسلات التي يزداد الطّلب عليها و الافتتان بها و يتضاعف الإدمان عليها،لدى
فئات اجتماعيّة مختلفة، ليست بريئة و ليست حياديّة تمامًا لأنها تتسلّل إلى عقلنا
الباطن في غفلة منّا فتحرّك قناعاتنا و تغيّر من تصوّراتنا و أفكارنا و مواقفنا
دون رفض منّا و دون مقاومة تُذكر.
و
هذا السّحر الذي تفرضه المسلسلات على المشاهدين يُمكِّنها من التّأثير على رؤيتهم
للعالم و الحياة حين تُعيد صياغة
أفكارهم القبليّة عن السّعادة و النّجاح و عن الحياة و الموت و المتعة و الجنس و
التّكسب و المال و الطّهارة و العفاف و التّدين و التّحلل و الألوان و
الأذواق و التّعرّي و اللّباس و
العلاقات العائليّة و المواضعات الاجتماعيّة و قضايا الثّقافة و السّياسة و الاقتصاد...كلّ أولئك يدخل في اهتمامات
المسلسلات ابتداءً من كتابة السّيناريوهات و تبعيّة و مآلاً عند الإنجاز و الإخراج.و بسبب هذا
السّحر الخفيّ و بسبب هذه الجاذبيّة الكبيرة أصبحت المسلسلات جزءًا من القوّة
النّاعمة ذات التّأثير الخفيّ الواسع المضمون على المديَين المتوسّط و البعيد.
و هناك ظاهرة بارزة في معظم المسلسلات الأمريكيّة و الغربيّة
عمومًا،و خاصّة تلك التي تبثّها المنصّات المُهَيمنة، و هو سعيها اللّاهث
لتصوير الفئات الاجتماعيّة المُهمَّشة و الذين يعانون
من العقد النّفسيّة و العقد الفكريّة و العقد الأخلاقيّة و المصابين بالشّذوذ
بأنواعه المختلفة و تصوير الهويّات الهَجينة من خلال خلط الأنواع و المتحوِّلين جنسيًّا...و
تسليط الأضواء على كلّ أولئك و تبريره و
تزيينه و جعله أمرًا عاديًّا و متقبَّلاً.و حجّة
القائمين على
هذه المسلسلات أنّ الظّواهر و الأشياء إذا لم يَتمَّ تصويرُها فهي غير موجودة
أو مهمَّشة.و ظهورها و تصويرها في الإعلام و في المسلسلات يجعلها حقيقيّة تحظى بنصيب من
الواقعيّة و الوجود.
إنّ الذي يستهدفه هذا النّوع من المسلسلات هو هَدْم المعياريّة في
حياة النّاس و تَهيئة المجتمعات نفسيًّا و فكريًّا لقبول هذا « الواقع الهَجين » بعيدًا
عن المعايير الإنسانيّة و الأُطر الاجتماعيّة المعروفة و تسهيل انتقال النّاس إلى
هذا « المستقبل الهَجين » الذي يصبح فيه كلّ شيء هجينًا متحوِّلاً و غيرَ ثابت و مفروضًا
و متقبَّلاً