الجمعة، 26 نوفمبر 2021

الغَيث و القُنوط


الغَيث هو المطر أو هو الخاصّ منه بالخير.و هو،أيضًا، السّحاب أو الكلأ يَنْبت بماء السّماء.و من مادّة الغَيث صُنِع الغَوْث و هو طلب النّجدة و النّصرة و كشف الشّدة.   أمّا القُنوط فهو شدّة اليأس و من مادّته صِيغ القَنْط و هو المَنْع.

و الغَيث و القنوط ظاهرتان بارزتان في الوجود و يتعاقبان في الكائنات و الأحياء تعاقب اللّيل و النّهار.إنّ الغَيث الذي يصيب الأرواح و النّفوس فيُحْييها بعد مَوات و يَشفيها بعد أَسقام فَتعُود فرحتُها و تَزهُو عواطفها و تَنْتَشي و تزداد كالغيث الذي ينزل على الأراضي و الأقاليم و الآكام و الآجام فيُنْعشها و يَسقيها و يُثمرها و يَنْمِيها.

و إنّ القنوط الذي يَحْبس الأنفاس و يُولِّد الحزن و العَجز و يُلبِّد العواطف و يَشُلّ التّفكير و يمنع الحركة و التّواصل ليس سوى قدَر من أقدار الله مؤقَّتٍ محسوب يُدفَع بالضّراعة و المناجاة.

و إنّ الغَيث الذي يُؤْنس الرّوح و يجدِّد الحياة و يصنع البهجة و النّماء هو رحمة من الله و نعمة و مِنّة و فضل قَمينٌ مقابلتُه بالحمد و التّسبيح و التّكبير.

الغَيث و القنوط،إذن، يتعاقبان فينا تعاقب اللّيل و النّهار بقدر محسوب و نصيب مفروض.و إنّ الزَّحْمة التي تكابدها النّفس حين القنوط و الفرحة التي تَهَشّ لها الرّوح حين الغيث قدَران متلازمان يجعلان شعورنا بالحياة شعورًا عميقًا لا سطحيًّا كما يجعلان موقفنا من تقلّباتها موقفًا متوازنًا لا مضطربًا و يَمْنَعانِنا،في الوقت نفسه، من الاستسلام لدواعي اليأس و التّمزق و الانقطاع حين يُعيدانِنا إلى قدرة الله القاهرة « الذي يُنزّل الغَيث من بَعْد ما قَنطوا و يَنشُر رحمته و هو الوليّ الحميد ».    


الاثنين، 18 أكتوبر 2021

محمّدٌ رسولُ الله...

لقد استمعتُ،في بعض الأحيان، إلى بعض الخطباء في المساجد أو في النّدوات أو في وسائل الإعلام و هم يتحدّثون عن شخصيّة محمّد صلّى الله و سلّم فلم أجِد لكلامهم صدًى في نفسي و لم أشعر بارتباط قويّ أو بصلة حيّة بيني و بين السّيد الجليل محمّد بن عبد الله و كأنّهم يتحدّثون عن شخص بعيد لا أعرفه أو عن قريب لا أذكره.إنّهم يتحدّثون عن شخصيّة محمّد صلّى الله و سلّم حديثًا باردًا باهتًا ناقصًا غير مَكمول لا يتناول الأبعاد المختلفة لهذه الشّخصيّة و لا يكشف عن عُمق إنسانيّتها و عِظم عطائها و ضخامة مسارها.و يَقوَى الاعتقاد عندي أنّ تخلّف هذا الخطاب عن الأداء الجميل و قصوره عن بلوغ الغاية في هذا الموضوع سببُه أمران اثنان.

أمّا الأمر الأوّل فإنّ معظم هؤلاء الخطباء و الأساتذة لا يتحدّثون،كما هو مَأمول، عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم الإنسان الذي كان يأكل الطّعام و يمشي في الأسواق و يعيش إنسانيّته كاملةً غير منقوصة.و بعبارة أخرى فهُمْ لا يتحدّثون عن سلوكه و أعماله داخل البيت مع أهله و أزواجه و طعامِه و شرابه و زِينته و لباسه و لا يتحدّثون عن مواقفه و أحواله خارج البيت مع أصحابه و أقربائه و مع خصومه و أعدائه و في سياسته و اقتصاده و في حَربه و سِلمه و في غَضبته و حِلمه و في فرحته و حزنه و في سائر حركته و سُكونه.

إنّ غالبيّة الذين يتحدّثون عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم يتوسّعون في الجانب الرّسالي لهذه الشّخصية العظيمة و يُغفلون أو يقصّرون أو يَستنكفون،ابتداء، عن الوقوف عند جانبها الإنسانيّ و كأنّهم يجدون حَرَجًا أو لا يَرَون لهذا الأمر من فائدة تُجْنَى أو أهمّية تُرتَجَى.و  لقد فاتَ هؤلاء السّادة أن يُدركوا أنّ الجمع بين الجانبين كليهما هو الصّواب و هو المأمول و أنّ تناول هذه الشّخصيّة العظيمة في بُعدها الإنسانيّ التّرابي الذي ننتمي إليه و في بُعدها الرّسالي الغَيبيّ الذي نتطلّع إليه هو الذي يُسهِّل اقترابنا من شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم حين تصبح،في وعينا و في حضورنا، شخصيّة إنسانيّة متميّزة تتعايش مع الملأ الأدنَى بكامل إنسانيّتها و تتواصل،في الوقت نفسه، مع الملأ الأعلى بفَيْض روحانيّتها.و مثلُ هذا المنهج الذي يتناول شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم على أنّه إنسان كامل الإنسانيّة يمارس إنسانيّته كاملةً فوق الأرض و رُوحُه سابحة في عالم الغَيب و الملكوت هو الذي يجعل،أيضًا، بيننا و بين محمّد بن عبد الله إنسانًا و رسولاً صِلةً حيّة و نَسَبًا قويًّا فنكون،حينئذٍ، أقرب إليه من أنفسنا حبيبًا إلى ذواتنا نتأسَّى به و نتّبعه.

و أمّا الأمر الثّاني فإنّ أيّ حديث عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم لا يُزهر و لا يُثمر إلاّ إذا كان الحبّ هو لغته و هو مادّته و هو وسيلته.هذا الحبّ الذي كان هو صلّى الله عليه و سلّم  منبعه و مصدره و كان هو،أيضًا، مَجْلاه و مظهره.

و لقد استمعتُ،يومًا، إلى أحد المُدمنين على الخمر و هو يتحدّث،في صَحْوه، عن شخصيّة النّبي صلّى الله عليه و سلّم فاستجابت لحديثه روحي و رقَّتْ نفسي و تحرّكت عواطفي و حينئذٍ تأكّد لديَّ،من جديد، أنّ المظاهر ليست مخابر و أنّ الحبّ مطيّة و مفتاح و أنّ الحبّ لا يكون،دائمًا، في المكان الذي يُظَنّ وجودُه فيه و أنّ الذي ذاق حجّةٌ على الذي لم يَذُق. 

إنّ الحبّ،في هذا المقام و في كلّ المقامات، هو الذي يختصر المسافات و يَكسر العقبات و يُزيل الغشاوات و يَهَب صاحبه روحًا متوقِّدة تُؤْتَى القدرة على الوصول إلى المعرفة الصّحيحة و بلوغ الفهم الجميل و تحقيق التّواصل العميق و شفافيّةً تصحّح الرّؤيا و تُعلن ما خَفِي و تكشف ما بَطَن.

محمّد رسول الله...الجانب الإنسانيّ التّرابي و الجانب الرّسالي الغَيبيّ كلاهما متضَمَّنٌ في اسمه و لقبه: محمّدٌ الاسمُ الذي يدلّ على الإنسان و أصله التّرابي.و رسولُ الله اللّقبُ الذي يشير إلى الرّسالة و بُعدها الغَيبيّ.و هذا الجانب الإنسانيّ التّرابي و الجانب الرّسالي الغَيبيّ كلاهما منصوص عليه في القرآن رَسْمًا و معنًى.

و إذا كان الجانب الإنسانيّ و الجانب الرّسالي الغَيبيّ قد امتزجا امتزاجًا قويًّا في شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و سلّم مدّة ثلاثة و عشرين عامًا فإنّ تضخيم هذا الجانب على حساب الآخر أو طَيّ أحدهما و نشر الآخر يَحجب الرّؤيا و يُشوّش الفهم و يَأفكُنا عن الإحاطة بأبعاد هذه الشّخصيّة العظيمة و حركتها الضّخمة في مجالها الكونيّ الحيويّ الكبير و هو،من قبلُ و من بعد، منهج خاطئ و سلوك مخالف لروح النّص القرآنيّ الذي رفع منزلة محمّد النّبي العربيّ بين سائر الأنبياء و الرّسل فكان نَسيجَ وَحْدِه و أشاد بإنسانيّته السّامقة و روحانيّته الفائقة. 



 

السبت، 9 أكتوبر 2021

القمّة 28 لمنتدى فرنسا- إفريقيا: تجديد الهيمنة و استعادة النّفوذ

                             

  افتُتحت يوم الجمعة 08 أكتوبر 2021في جنوب فرنسا، أشغال القمّة 28 لمنتدى إفريقيافرنسا بحضور أكثر من 2000 مشارك منهم 700 من إفريقيا.و لم يُدعَ لهذه القمّة أيّ رئيس في إفريقيا أو أيّ سلطة رسميّة أخرى و هذا هو الأمر الجديد،في هذه القمّة، الذي لم يحدث منذ سنة 1973.أمّا المشاركون فهم فئات من الشّباب من إفريقيا و فرنسا من قطاعات مختلفة كقطاع الأعمال و الثّقافة و قطاع الرّياضة و الفنّ و الإبداع...يتبادلون المواقف و الأفكار في مواضيع محدّدة كالتّعليم العالي و البحث و الابتكار و الثّقافة و الرّياضة...و تستهدف هذه القمّة،كما أُعلن عنه رسميًّا، التّفكير في الآليات الجديدة التي ينبغي تبنّيها لتجديد العلاقة بين فرنسا و إفريقيا و الإجراءات القادرة على إعطاء نفَس جديد لهذا التّجمع السّياسي.

هذا هو الظّاهر عن هذه القمّة و المكشوف منها فما الذي وراءها من خفايا و مدسوس ؟

إنّ هذه القمّة و صيغتها الجديدة و الفئات التي استهدفتها و المحاور التي تناولتها لا يمكن فهمها جيّدًا و تحليل أسبابها و أبعادها إلاّ في إطار المتغيّرات الكبرى التي تحدث على المستوى الإقليميّ و الدّوليّ.و يمكن توضيح هذا الأمر في بعض النّقاط التّالية:

1- تستهدف هذه القمّة بصيغتها الجديدة،في المقام الأوّل، البحث عن عذريّة جديدة لفرنسا بعد موجات الاحتجاجات الشّعبيّة الكبرى ضدّ سياساتها،في إفريقيا، القائمة على السّلب و النّهب و التّدخل السّافر و صناعة التّخلف و الفقر و التّبعية و التّجهيل...

2- تغييب فرنسا لرؤساء الدّول و الهيئات الرّسميّة الإفريقيّة عن هذه القمّة هو محاولة لتلميع صورتها و كسب نوع من التّعاطف لدى الشّباب الإفريقيّ و هيئات المجتمع المدنيّ،في إفريقيا، باستحداث « قمّة معكوسة » تشارك فيها فئات من هذه المجتمعات لم تكن تحظى،من قبل، بالتّمثيل و الحضور.و هي تتوسّل لبلوغ هذه الغاية بالقوّة النّاعمة ذات التّأثير الخفيّ الواسع المضمون على المديَين المتوسّط و البعيد.  

3- تجيء هذه القمّة بصيغتها الجديدة بعد تنامي الحضور الأجنبيّ المنافس في القارّة الإفريقيّة    و منطقة البحر الأبيض المتوسّط و المتمثّل في التّوسع الصّيني الذي يتمدّد مقابل المليارات و الاستثمارات و كذلك النّفوذ الرّوسي و التّركي الذي بدأ في التّقوي و الاستعلان.

إنّ هذه القمّة بصيغتها الجديدة،كالقمم التي سبقتها، لن تغيّر من موقف الشّعوب الإفريقيّة من فرنسا و لن تجدِّد شيئًا في العلاقة بين فرنسا و إفريقيا لأنّ مشكلة فرنسا الأولى هو هذا الفكر الاستعماريّ التي لا يزال يحكم سياستها الخارجيّة و علاقاتها المختلفة مع دول إفريقيا و الذي كان سبب كثير من الحُطام و الخراب الذي لحق هذه القارّة.

إنّ القمّة الثّامنة و العشرين لمنتدى فرنسا- إفريقيا ليس بحَدث يُؤَمَّل شيء من ورائه لأنّه محاولة للتّلهية و التّخدير و محاولة لتجديد الهيمنة و استعادة النّفوذ 

                                                  
                               
  

الاثنين، 4 أكتوبر 2021

الخَلق المستمرّ

الحياةُ حياتان: حياة عاديّة سطحيّة باردة كئيبة لا بَنَّةَ لها و لا طَعمَ و لا لون    و هي شبيهة،إلى حدّ كبير، بحياة القطيع و الحيوان.و هنالك الحياة الأخرى التي تُشْبِعُك و تَستَوعبُك و تملأ أعصابك و خلاياك حين تقوم بتوليد المقاصد و تجديد الغايات و تكون أنت و كَينونتك في خَلْق مُستمرّ فتذوق مِن العواطف القويّة ما تَذوق و من الآلام الكُبرى و اللّذات و ما يَنشأ عن هذه و تلك مِن معانٍ و دلالات و ما تُخلِّفه،هذه التّجارب و الأحداث، مِن آثار و عَقابيل أو ما تُرسِّخه،في أعماق النّفس، من قوّة و إيمان و رجاحة و اكتمال و بَصيرة و إبصار و عِناد و تَصميم...

حين تكون حياتُك هي خَلْقٌ مستمرّ في كلّ وَضْع و حِين: في الصّباح و المساء و في اللّحظة و ما بَعد الحِين و في اليوم و الغَد و في الصّحة و المرض و في الفَقر و الغِنَى و في الوَجْد و الفَقْد و في النَّهضة و السّقوط و في الخَلْوة و الجَلْوة و في الفَرحة و الحزن و في اللّذة و الألم...

و حين تكون تَجلِّياتُ هذا الخلق المستمرّ غالبة في الشّعور و الوجدان و في الهواجس و الخواطر و في الخَفايا و الحَنايا و طافحة في المواقف و الأفكار و في المقاصد و النِّيات و في العزيمة و الإرادات...

حين تكون حياتُك هي هذا الخلق المستمرّ في كلّ الأزمنة و الأودية و في كلّ الأوضاع و الأحوال و تكون تَجلِّياتُها غالبة طافحة فإنّها تكون،حينئذ، حياةً أكبر من مجرّد حياة و أعمق سَيلاً و أكثرَ جاذبيّة و أوسعَ تأثيرًا.

و هذا الخلْق المستمرّ هو الذي يَخْلُقك،دائمًا، خَلقًا آخر و هو الذي يَهَبُ لحياتك طَعمًا و بنَّة و لَونًا و هو الذي يُجدِّدك و يُؤكِّدُك و هو الذي يُحْييك و يُنمِّيك

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

السّحر الخفيّ للمسلسلات

صدر في 25 أوت الماضي كتاب ( السّحر الخفيّ للمسلسلات )  Le Charme discret des  séries  لصاحبته فيرجيني مارتن.و تتناول الكاتبة،في هذه الدّراسة، ذلك السّحر الخفيّ الذي تمارسه علينا المسلسلات كما تقوم بتفكيك الآليات المختلفة و الأساليب التي تجعلها تؤثّر في تفكيرنا و في يوميّاتنا فنُدمن عليها و نستسلم لها في سهولة و يُسْر.و لم يَفُت الكاتبة،أيضًا، أن تُحيطنا علمًا بالجانب الآخر للمسلسلات و المتعلّق بكتّاب السّيناريوهات و التّمويل و القيم و الأفكار المقصود نشرها و تسويقها.و قيمة هذا الكتاب أنه لم يَقف عند المسلسلات الأنجلو ساكسونية أو الغربية فقط بل تعدّاها إلى المنتجات البرازيلية و الكوريّة الجنوبية و اليابانيّة و التّركيّة و الهنديّة.

و يمكن القول بأنّ للمسلسلات تأثيرًا خاصًّا على المشاهدين يختلف عن ذلك التّأثير النّاشئ من الأفلام.و لذلك أصبحت تحظى بنصيب كبير من الإنتاج التّلفزي و السّينمائيّ في كلّ الدّول.و لم تتخلّف منصّات التّدفق و البثّ المباشر المُهَيمنة مثل netflix, disney+, amazon prime video… عن الاهتمام بهذا النّوع من الإنتاج لأنه أصبح سلعة رائجة يمكن من خلالها نشر الأذواق و الألوان و تفسير الحوادث و الظّواهر و إعادة صياغة العقول وفق النّظرة الأمريكيّة و الغربيّة للكون و العالم.

و بعيدًا عن محتوى هذا الكتاب يمكن القول بأنّ المسلسلات،خلافًا للأفلام، تتميّز بقدرتها الهائلة على امتلاك المشاهد امتلاكًا فتجعله مشاهدًا مَهووسًا و مدمنًا بليد الحسّ مشلول التّفكير فتتحكّم،حينئذ، في وقته و في أعصابه تحكّمًا حقيقيًّا و تصنع اهتماماته و تصوغ أفكاره المختلفة عن الحياة و المجتمع و الكون و العالم.

و اللاّفت للانتباه في المسلسلات أنّها تستطيع اختراق وعي جموع المشاهدين و التّأثير في عقلهم الباطن ثمّ إعادة تشكيله و صياغته بصورة عجيبة و بأسلوب فريد لا تستطيعه الأفلام و لا هو في مُكْنتها.

و تلجأ المسلسلات لتحقيق هذا الغرض إلى التّوسل بأساليب كثيرة منها الإثارة المختلفة و صناعة الأحداث المتناقضة و التقلّب السّريع للشّخصيات و تبادل الأدوار و جعل غير الممكن واقعًا ممكنًا بالاعتماد على عنصر المفاجآت التي لا تنتهي و إعلان السّيطرة الكاملة للعواطف و النّزوات و اختفاء قيم المعقوليّة و المسؤوليّة...فلا شيء يَهُمّ في النّهاية سوى الظّفر بالشّيء و حيازته و تحقيق التّألق و النّجاح بأيّ كيفيّة و بأيّ أسلوب.

إنّ هذه المسلسلات التي يزداد الطّلب عليها و الافتتان بها و يتضاعف الإدمان عليها،لدى فئات اجتماعيّة مختلفة، ليست بريئة و ليست حياديّة تمامًا لأنها تتسلّل إلى عقلنا الباطن في غفلة منّا فتحرّك قناعاتنا و تغيّر من تصوّراتنا و أفكارنا و مواقفنا دون رفض منّا و دون مقاومة تُذكر.

و هذا السّحر الذي تفرضه المسلسلات على المشاهدين يُمكِّنها من التّأثير على رؤيتهم للعالم و الحياة حين تُعيد صياغة أفكارهم القبليّة عن السّعادة و النّجاح و عن الحياة و الموت و المتعة و الجنس و التّكسب و المال و الطّهارة و العفاف و التّدين و التّحلل و الألوان و الأذواق و التّعرّي و اللّباس و العلاقات العائليّة و المواضعات الاجتماعيّة و قضايا الثّقافة و السّياسة و الاقتصاد...كلّ أولئك يدخل في اهتمامات المسلسلات ابتداءً من كتابة السّيناريوهات و تبعيّة و مآلاً عند الإنجاز و الإخراج.و بسبب هذا السّحر الخفيّ و بسبب هذه الجاذبيّة الكبيرة أصبحت المسلسلات جزءًا من القوّة النّاعمة ذات التّأثير الخفيّ الواسع المضمون على المديَين المتوسّط و البعيد.

و هناك ظاهرة بارزة في معظم المسلسلات الأمريكيّة و الغربيّة عمومًا،و خاصّة تلك التي تبثّها المنصّات المُهَيمنة، و هو سعيها اللّاهث لتصوير الفئات الاجتماعيّة المُهمَّشة و الذين يعانون من العقد النّفسيّة و العقد الفكريّة و العقد الأخلاقيّة و المصابين بالشّذوذ بأنواعه المختلفة و تصوير الهويّات الهَجينة من خلال خلط الأنواع و المتحوِّلين جنسيًّا...و تسليط الأضواء على كلّ أولئك و تبريره و تزيينه و جعله أمرًا عاديًّا و متقبَّلاً.و حجّة  القائمين على هذه المسلسلات أنّ الظّواهر و الأشياء إذا لم يَتمَّ تصويرُها فهي غير موجودة أو مهمَّشة.و ظهورها و تصويرها في الإعلام و في المسلسلات يجعلها حقيقيّة تحظى بنصيب من الواقعيّة و الوجود.

إنّ الذي يستهدفه هذا النّوع من المسلسلات هو هَدْم المعياريّة في حياة النّاس و تَهيئة المجتمعات نفسيًّا و فكريًّا لقبول هذا « الواقع الهَجين » بعيدًا عن المعايير الإنسانيّة و الأُطر الاجتماعيّة المعروفة و تسهيل انتقال النّاس إلى هذا « المستقبل الهَجين » الذي يصبح فيه كلّ شيء هجينًا   متحوِّلاً و غيرَ ثابت و مفروضًا و متقبَّلاً

الأربعاء، 18 أغسطس 2021

جمال بن اسماعيل...


 قُتل جمال بن اسماعيل و هو في عقده الثّالث يفيض حبًّا و حياةً و يتدفّق حركة و عطاءً و يَنضح طموحًا و آمالاً...قُتل جمال بن اسماعيل مظلومًا مغدورًا قِتلة بشعةً همجيَّة قد تتجاوز في بشاعتها و همجيّتها جرائم كبار السّفاحين و الهَمَجيِّين في العصر الحديث...

كيف كان شعورك،يا جمال، و أنت في وسط هذه الحشود المتوحِّشة التي التفّت حولك بالضّرب الحاقد و الدَّوْس و العَفْس و السّب اللاّذع و الإهانات و الاعتداء المسلَّح المُميت...كأنّهم تلقَّوا دعوة أو كانوا على موعد سابق أو اتّفاق.و كيف كان شعورك،يا جمال، و أنت تواجه هذه الحشود الهَمجيّة في قوّة و ثبات بما بَقِي في صدرك مِن نَفَس يتردّد و صَوت و كلمات مُعلنًا براءتك متكبِّرًا على حقدهم و وَحشيّتهم و همجيَّتهم...

و كيف كان شعور هذه الحشود المتوحِّشة التي لم يُشْبِع حقدَها موتُك فالتفّت،مرّة أخرى، حول جسدك الطّاهر تمزّقه و تَنْهَشه كما تَنهش الضِّباع لَحْم فريستها ؟ و كيف كان شعور هذه الحشود الهَمجيّة،و هي تتصايح كالضِّباع، و تتنادَى للتّمثيل بجُثّتك الهامدة أبشع تمثيل و التّلذذ بمشهد جسدك الطّاهر و هو يحترق ؟

لقد تمّ اختيارك،يا جمال، لأنْ تُقتل.و لقد كنتَ « مُبرمَجًا » لأنْ تُقتل بهذه الطّريقة الهمجيّة التي لم يُفعل مثلها في البلاد.

و لكن لماذا قُتل جمال بن اسماعيل هذه القِتلة الهمجيَّة ؟

قُتل جمال هذه القِتلة الهمجيَّة لأنه يمثّل جدار التّضامن الوطنيّ الذي يُراد له أن يَسقط و لكنّه لم يتساقط بعدُ.و يمثّل هذه الرّوح الجزائريّة المشتعلة التي تَهُبّ في وقت الشّدائد و الطّوارئ إلى التّعاون و التّآزر و التّكاتف و التّعاضد و التّعاطف و المواساة كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسد بالسَّهر و الحُمَّى...

قُتل جمال هذه القِتلة الهمجيَّة لأنه يمثّل صخرة الوحدة الوطنيّة التي تنكسر عندها كلّ أمواج الضّغائن و الأحقاد و محاولات التّفرقة و التّقسيم و كلّ مخطّطات الفوضى و الخراب و سيناريوهات الدّماء و الأشلاء و الدّموع و الأحزان...

قُتل جمال هذه القِتلة الهمجيَّة لأنه رمزٌ لهذه الجزائر المُثْخَنة بالجراح و المُثْقلة بالسّلاسل و الأوهاق و لكنّها تتأبَّى،دائمًا، على السّقوط و تَستَعصي،أبدًا، على الانكسار.

قُتل جمال هذه القِتلة الهمجيَّة لأنه مِثال لهذه الرّوح الجزائريّة المؤمنة التي تفيض إيمانًا و حركة و اشتعالاً...هذه الرّوح المؤمنة التي تحبّ الوطن و تغنّي للوطن لأنّها تعلم أنّه من الإيمان حبّ الوطن.هذه الرّوح المؤمنة التي تحبّ الحياة و تتشبّث بالحياة و تنتعش بالأمل و تتطلّع إلى الغد الجميل رغم الظّروف القاسية و رغم كلّ الطّوارئ و النّوازل و الأزمات و العداوات...

و السّؤال الذي يبقى قائمًا مُلحًّا يطلب إجابته هو: من قتل جمال بن اسماعيل ؟ و من « بَرْمج » مَوته و هيّأ الأدوات الحاقدة المتوحِّشة لتنفيذ هذه الجريمة الهَمَجيّة ؟

نَمْ هنيئًا يا جمال فإذا لم تَنتقم لك عدالة الأرض فإنّ الله الذي حرّم الظّلم على نفسه سينتقم لك اليوم قبل الغد.

 

الثلاثاء، 20 يوليو 2021

إبراهيم الخليل...

الابتلاء ألوان و مستويات: فقد تحتمل النّفس ألوانًا منه فتُكابده و تُعانيه و تُقاومه و تُجاريه حين يأخذ هذا الابتلاء من حظوظ هذه النّفس في الصّحة و الرّاحة و المال...و لكنّ هذا الابتلاء قد يَعْظم بل يتعاظم و يصبح ابتلاء فوق الواقع و أكبر من المُستطاع حين يكون أمرًا بذبح الابن فَلْذةِ الكبد و زينةِ الدّنيا و مُتعة الرّوح !

إبراهيم الخليل،عليه الصّلاة و السّلام، أُمِر بذَبح ابنه الذي بلغ معه السَّعْي،أيْ شبَّ فأصبح ذا سَعْي و نَفْع لوالده، فلم يُطِعْ فقط و لم يَستجب فحسب بل أسْلم هو و ابنُه أيْ انْقاد و خضع.و الانقياد و الخضوع درجة،أو درجات، فوق الطّاعة العاديّة و الاستجابة المعهودة.

هذا الابتلاء الكُبّار الذي تعرّض له إبراهيم الخليل و نجح فيه نجاحًا يُعلّمنا درسًا كبيرًا في الحياة و هو أنّ العطاء يكون،دائمًا، في مستوى البلاء و أنّ المِنّة و الرّضوان تكون كِفاءً للصّبر و الامتحان.

فما هو العطاء الذي أُوتِيَه إبراهيم الخليل عليه السّلام ؟ و ما هي المِنّة و الخصوصيّة التي فاز بها و الأفضال ؟

إنّ الله تعالى لم يُنْقذ ابنه من الذّبح و لم  يُفْدِه بذِبْح عظيم فقط بل جعل اسمه خالدًا ساريًا في العالَمين تردِّده الحناجر و الأكوان: فهو أبو الأنبياء ذو الحَنِيفيّة السّمحة و من صُلبه خرج الأنبياءُ و الرّسل و إليه تَنتسب أديان التّوحيد و اسمُه و رَسْمُه و سَعيُه و هَدْيُه و آثارُه و أخبارُه و بناؤه و مقامُه...كلّ أولئك مرتبط بالحجّ و هو أحد قواعد الإسلام الكبرى.و كذلك مرتبط ذكرُه و يَقينُه و صَبرُه و تَسليمُه بأكبر عيد و هو عيد الأضحى و في الصّلاة،و هي عماد الدِّين، يَذكُره الذّاكرون    و يُعْلي قَدْرَه و مِقدارَه القُنَّتُ الرّاكعون...

هذا هو إبراهيم الخليل،أبو الأنبياء، حاضرٌ حضورًا جميلاً و مذكورًا ذكرًا كبيرًا لأنّه كان أُمَّةً،أيْ اجتمعت فيه وَحْده من الخصال الكبيرة ما يجتمع في أمّة، و كان إمامًا و معلِّمًا و أُسْوة و قُدْوة قانتًا لله حنيفًا و مؤمنًا وَحْده و النّاس مِن حَوله مُشركون...

المِنّةُ و العطاءُ،إذنْ، كِفاءٌ للامتحان و البلاء.و هذه واحدة من معاني عيد الأضحى المبارك الذي يَعودُنا كلَّ عام مُجدِّدًا نَفحاته و معانيه التي نُؤمِّل أنْ تُجدِّد في أرْواحنا ما بَلِيَ و أنْ تُحْيِي في نُفوسنا ما مات 
       

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/