الخميس، 10 ديسمبر 2020

في ذكرى الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان

 

يحتفل العالم،اليوم، بالذكرى 72 لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كلّ عام.و لقد كان جديرًا بهذا العالم الممزّق و بشعوب الأرض المضطهدة أنْ تحتفل بجنازة هذا ا لإعلان العالميّ الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالميّة الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان.

إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالميّة و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيِّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم وأقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدّول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948 .و كأنّ ميلاد هذا الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدّول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مُبتغاه.

و قد شهدت الأرض،منذ صدور هذا الإعلان مظالم كثيرة و جرائم كبرى لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلاً.و اتُّخذت بنودُ هذا الإعلان العالميّ ستارًا لتغطية جرائم الحضارة الغربية بشقّيها الأمريكي و الأروبي.

فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟

و ما الذي يبقى من وَزْن و تأثير للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتواطأ مع الحكّام القَتلة و المستبدّين و يَدعمهم و يُزكّي حُكم العَسكر و يؤيِّد انقلابات الجيوش،في كلّ مكان، لأنّها تَخدم مصالحه في التّوسع و بَسط النّفوذ و تحقّق رغبته في السّيطرة على ثروات الشّعوب و التّحكم في مصائرها و تأبيد تبعيَّتها و إذلالها.

و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يَسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفَرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق و أفغانستان و يحصل في غزّة و في فلسطين...

و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في الصّومال كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.

و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارَهم و يَسلبهم أسباب الرّزق و يَحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما حدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.

و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يَحْزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا ودماءُ الضّعفاء قاطبةً،في العالم، و المنبوذين الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَصرخ و يَعِد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تُهان الأقليّات المسيحيّة أو الأقليّات الأخرى التي تَخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.

و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية،التي يَتفَنّن فيها الغربيّون، والاعتداءات الجنسيّة الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.

والذي يُقضَى منه العَجَب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانية الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربيّة و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربيّة فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تَعْنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القَهر و الإرهاب و الاستئصال.

و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يُجَنّ جُنونُهم،كما يقول المؤرّخون،فيحرقون و يدمّرون و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبةً في أيدي الدّول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.

هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد اثنَين و سبعين عامًا من صدوره.و هذا هو التّلاعب الذي لَحِقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخَراب و الدّمار الذي أُنْجِز تحت لوائه.

و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد وأنْ تنتفض شعوب الأرض المظلومة على هذا الواقع الأليم الذي تعاني نتائجَه المدمِّرة فتستعيد زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان سيظلّ مبرّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال ووسيلة فعّالة للقهر و الإذلال و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضَرُّها أكبر من نَفعها.


الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

السّكر و الملح

 

للسّكر حلاوتُه و عُذوبته تَستسيغُه فتَستزيد منه.و لكنّ الملح له بنّتُه و خصوصيّته فلا الطّعام يكون طعامًا بدونه و لا المقادير تتوازن في غَيْبته.

السّكر و الملح لذّتُهما أجمل،في الحسّ و الشّعور، حين يتداولان و يتعاقبان.و لكنّ لذّتَهما تكون أكبر حين يَمتزجان فيذوب أحدهما في الآخر مُحافظَيْن على بنّتهما و خصوصيّتهما كما هو الحال في الطَّبق الحُلو المالح الذي يُغني ذَوقك و يُلوِّن شعورك و يُوسّع مَداركك.و كذلك الحال في شؤون الحياة كلّها سكّرِها و ملحِها لا تَحلُو و لا تَجْلُو إلاّ حين يتعاقبان أو يمتزجان.

السّكر و الملح كلاهما مُمتع و كلاهما مفيد و لن تستطيع أنْ تَحيا حياة كبيرةً في الفهم و الإدراك ممتلئةً في الشّعور و الوجدان إذا كنتَ تمتلك السّكر كلّه و أنتَ إلى الملح تَفتَقر.


الأربعاء، 18 نوفمبر 2020

الخَلْق المستمرّ

الحياةُ حياتان: حياة عاديّة سطحيّة باردة كئيبة لا بَنَّةَ لها و لا طَعمَ و لا لون و هي شبيهة،إلى حدّ كبير، بحياة القطيع و الحيوان.و هنالك الحياة الأخرى التي تُشْبِعُك و تَستَوعبُك و تملأ أعصابك و خلاياك حِين تكون حياتُك في خَلْق مُستمرّ فتذوق مِن العواطف القويّة ما تَذوق و من الآلام الكبرى و اللّذات و ما يَنشأ عن هذه و تلك مِن معانٍ و دلالات و ما تُخلِّفه،هذه التّجارب و الأحداث، مِن آثار و عَقابيل أو تُرسِّخه،في أعماق النّفس، من قوّة و إيمان و و رجاحة و اكتمال  و بَصيرة و إبصار و عِناد و تَصميم...

 حين تكون حياتُك هي خَلْقٌ مستمرّ في كلّ وَضْع و حِين: في الصّباح و المساء و في اللّحظة و ما بَعدَ الحِين و في اليوم و الغَد و في الصّحة و المرض و في الفَقر و الغِنَى و في الوَجْد و الفَقْد و في النَّهضة و السّقوط و في الخَلْوة و الجَلْوة و في الفَرحة و الحزن و في اللّذة و الألم...

و حين تكون تَجلِّياتُ هذا الخَلق المستمرّ غالبة في الشّعور و الوجدان و في الهواجس و الخواطر و في الخَفَايا و الحَناَيا و طافحة في المواقف و الأفكار و في المقاصد و النِّيات و في العزيمة و الإرادات...

 حين تكون حياتُك هي هذا الخَلْق المستمرّ في كلّ الأزمنة و في كلّ الأودية و الأوضاع و تكون تَجلِّياتُها غالبة طافحة فإنّها تكون،حينئذ، حياةً أكبرَ من مجرّد حياة و أعمق سَيلاً و أكثرَ جاذبيّة و أوسعَ تأثيرًا.و هذا الخَلْق المستمرّ هو الذي يَخْلُقك،دائمًا، خَلقًا آخر و هو الذي يَهَبُ لحياتك طَعمًا و بنَّة و لَونًا و هو الذي يُجدِّدك و يُؤكِّدُك و هو الذي يُنمِّيك و يُحْيِيك.


الاثنين، 9 نوفمبر 2020

من هو جيرالد دارمنان Gerald Darmanin زير الدّاخلية الفرنسيّ ؟

 

من هو جيرالد دارمنان Gerald Darmanin وزير الدّاخلية الفرنسيّ  الذي زار الجزائر الأحد 08 نوفمبر 2020 و تزامنت زيارتُه مع اندلاع الحرائق في الغابات الجزائريّة ؟

الاسم الكامل: جيرالد موسى دارمنان و هو ابن جيرارد الذي كان صاحب مقهى في مدينة فالنسيان Valenciennes في شمال فرنسا و هو من أصول يهوديّة مالطيّة و أمّه، و هي من أصول جزائريّة، كانت عاملة نظافة في إحدى البنوك الفرنسيّة.و قد و كان والدُها،أيْ جَدُّه لأمّه، جنديًّا مقاتلاً في الجيش الفرنسيّ في إبّان ثورة نوفمبر و هو يلقِّبه ببطل الجمهوريّة و يُثْني عليه في مواقفه و مقالاته.

وزير الدّاخلية الفرنسيّ جيرالد دارمنان Gerald Darmanin ،و هو حفيد الخائن و الحَرْكيّ الذي قاتل الجزائريّين في  صفوف الجيش الفرنسيّ، معروفٌ بمواقفه الحاقدة و العدائيّة تجاه الجاليات المسلمة في فرنسا.و قد طالبت محكمة في باريس،منذ أشهر قليلة، بفتح ملفّ التّحقيقات التي تستهدفه لأنه مُتَّهَم بالتّحرش و الاعتداء الجنسيّ عام 2009.

و قد زار جيرالد دارمنان قرية أولاد الغالي،في ولاية مستغانم، و هي مكان ولادة جدّه موسى واكيد Moussa ouakid ، الحَرْكيّ الذي قاتل الجزائريّين مع الجيش الفرنسيّ، و أعلن أنه سعيد بالعودة إلى أرض أجداده.و لم يَقُل الجزائر و إنّما قال ( أرضُ أجداده ) أيْ أنه يقصد الجزائر الفرنسيّة !


أمريكا و العالم

 


العالم كلُّه منشغل بأمريكا و هو يتابع أحوالها في الحرب و في السّلم و حين تَرضى و حين تَغضب.و يتضاعف اهتمام هذا العالم بأمريكا في فترة الانتخابات إلى درجة شعوره بأنه مشارك في هذه الانتخابات أو مَعنيٌّ بها أو أنّ مصيره متعلّق بنتائجها.

فما سبب هذه  « التّبعية المُبَطّنة » و ما سبب هذه الجاذبيّة و الافتتان ؟

الجواب: الهَيْمنة .و الهَيْمنة هي القدرة المطلقة على الشّيء من كافّة جوانبه و بشتّى الوسائل.و هذه الهَيْمنة الأمريكيّة بادية في مظاهرها السّياسية و الاقتصاديّة و العسكريّة و التّكنولوجيّة.و لكنّ هذه الهَيْمنة بادية أكثر في مظاهرها الثّقافية و الفنّية إذْ إنّ أمريكا بمؤسّساتها البحثيّة و قياداتها العلميّة و الفكريّة و الفنّية تَصنع للعالم،بشكل ما، أسلوب تفكيره و نَمط عَيشه و وسائل نجاحه و أذواقَه و ألوانه...و هي التي تصنع لهذا العالم،أيضًا، لُغته و قِيمه و مصطلحاته...

و هذه الهَيْمنة بمظاهرها المختلفة هي التي حقّقت لأمريكا هذه السّيادة المطلقة supremacy  على العالم و حقّقت لها هذه الغلبة الظّاهرة في الواقع و في الضّمائر و الأذهان مِصداقًا لكلمة ابن خلدون الخالدة التي تُؤكّد: « أنّ المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شِعاره و زيِّه و نِحْلته و سائر أحْواله و عَوائده «.





السبت، 31 أكتوبر 2020

فاتح نوفمبر 2020

 

إنّ عظمة نوفمبر في ماهيَّته: إنّه الثورة و الانتفاضة و التّمرد.و هو الدَّويُّ و الصَّرخة و الانفجار.إنّه الإرادة و الإباء و العِناد.و هو الصَّيْحة و الهَبّة و الغَلَيان.إنّ نوفمبر هو الغَضبة الكبرى التي عَصَفت بالظّلم و الظّالمين بعد 132 سنة من الحقد الفرنسيّ المدمِّر و الهَمَجيّة الفرنسية الوَحشيّة و الإبادة الجماعيّة و القتل المنظَّم و الدّماء و الأشلاء و الدّموع و الأحزان و سياسات القَهر و الإذلال و التّعذيب و التّنكيل و النّفي و الاستئصال و الطَّمْس و التّجهيل...

إنّ نوفمبر تَضيق به الكُتبُ و الصّحائف و المُدوَّنات فكيف تَسَعُه الدِّيباجة المُتهافتة و الجُملةُ النّاقصة و الإشارة الباهتة و اللَّفْتة المَشكُوكة و النِّية المُبيَّتة و الإيحاء المُتَّهم ؟ و إنّ كلّ محاولة لتَحْنِيطه أو مصادرته هي محاولة فاشلة لأنّ نوفمبر،بطبيعته، يتجدَّد و لا يتبدَّد مقاومًا للموت مُتأبِّيًا على التّحول و الانتقال كطائر الفَينَق الذي يُبْعَث من فَنائه و رَماده.

إنّ نوفمبر هو الأمل و هو الحرّية و هو الانطلاقة و الاتِّجاه.و قد عَلَّمنا نوفمبر،و لا يزال، أنّ الجزائر ليس لها إلاّ حليفان: إيمانُها الكبير الذي يُحرِّك الجبال و شَعبُها العظيم الذي يأبَى الخضوع و الاستسلام.و هذا المعنى الخَفِيُّ الجَلِيّ هو الذي تُوحي به كلمات الإلياذة الخالدة:

            و لولا العَقيدةُ تَغمُر قَلبي ***** ما كُنتُ آمَنتُ إلاّ بشَعْبي    


الأربعاء، 21 أكتوبر 2020

الكتابة معاناة

 

إنّ الكتابة معاناة و إنّي لأكاد أجزم أنّ المعاناة لا تظهر في شيء كما تظهر في عمليّة الكتابة.و لقد أساء إلى الكتابة كثيرًا و شوّهَ مُحيَّاها طوائفُ من المثقّفين و المتعلّمين حين أفْرغوها من كلّ معاناة فأصبحت،عندهم، عملاً هيِّنًا بسيطًا يمارسونها كما يمارسون بعض الوظائف الحيويّة أو الهوايات.

و إنّه ليكفي متابعة ما يُسجَّل في أغلب الصّحف و المجلاّت و ما يُسطَّر في بعض الكتب و الأسفار ليَستَيقن المرء أنّ الكتابة،في هذه الأيّام، بَهَت لونُها و هان شأنُها و زال تأثيرها حين تصدَّى لها أصناف من الناس يفتقرون إلى الوسائل و تُعوزهم الأدوات و لا يَحُوزون القدرة على الوفاء بأكبر مقتضيات الكتابة ألا و هي المعاناة.و بسبب هذه الأصناف المزدحمة عند باب الكتابة،زُورًا و ادِّعاءً، أو نتيجةً لجرأتهم استحالت الكتابة موتًا و مواتًا بدلاً من أنْ تكون بعثًا و حياةً و نشورًا.

إنّ الكتابة معاناة في الظاهر و الباطن: معاناة في الألفاظ و الكلمات و في الجمل و العبارات و في الإطار و الأشكال.و معاناة في المعاني و المضامين و في اللَّطائف و الأبعاد و الإيحاءات.و معاناة في النّظم و الترتيب و الجمع و التّنسيق.إنّ المعاناة لحاضرة في كلّ مراحل الكتابة: في أوَّلها و في وسطها، في مبدئها و في مُنتهاها.و هي كذلك حاضرة في مُنعطفاتها و منحنياتها و في زواياها و ثناياها و في لُحمتها و سَداها.

و إنّ هذه المعاناة لحاضرة،فضلاً عن ذلك كلّه ،في مجموع الظّروف النّفسية التي ترافق عملية الكتابة و تتلبَّس بها و في حالات المزاج المختلفة التي تتخلّلها و في لحظات التأمّل و الاستبطان التي تغشاها كما هي حاضرة في ذلك المزيج الحادّ من عواطف اللّذة و الألم و السّأم و الملل و الشّك و اليقين و القُدرة و العجز و البَسط و القَبض و التّدفق و النّضوب و الاندفاع و التّريث و الإقبال و الإدبار و السّمو و الدّنو...بل إنّ حضورها ليمتدّ،أحيانًا، عند بعض الكاتبين الكبار و يتعاظم و يستطيل فيُصاحبهم حينًا مَديدًا بعد فترة الكتابة و الإبداع و يَغْشاهم آناءً بعد التّسطير و النّهاية و التّمام.

و كلَّما كانت المعاناة كبيرة استنفدت طاقاتِ الكاتب و استهلكت عُصارتَه و اختلطت بدمه  و أعصابه و حينئذ،فقط،تفوز هذه الكتابة بالخلود و تحظَى بالدّوام و الامتداد فتَسْكن القلوب و العقول قبل أنْ تسكن الغَيب و المستقبل و حياة الأجيال.أما تلك الكتابة التي وُلدت باردة هامدة جامدة لأنّها لم تُصْهَر في بَوتقة المعاناة فإنّ أحدًا من الناس لا يَأويها و لا هي تجد من يحتضنها و يتبنّاها لأنها وُلدت ميّتةً و الناس لا يتبنَّوْن الأموات.


اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/