السبت، 28 مايو 2022

للصّائم فرحتان...


يحظَى الصّيام،بين سائر العبادات، بالمكانة الخاصّة و الدّرجة العُليا.و سبب هذه الحظوة أنّ الله ربط الصّيام بذاته العليّة: (...الصّيام لي و أنا أَجزي به ).و قد قيل في سبب نسبة الصّيام إلى الله و إضافته إليه معانٍ كثيرة من بينها أنَّ الصيام هو امتناعٌ عن شهوات النّفس و تجاوز لنداءاتها القاهرة و استعلاء على صَيحات الجسد القويّة في أيّام معدودات وَفق نظام معيَّن و توقيت معلوم.و حين يمتنع الإنسان المؤمن عن شهواته و يقاوم نداءها،طاعةً لله، و هو قادرٌ على تلبية هذا النّداء فإنّ ذلك يكون عنوانًا على صحّة إيمانه وإخلاص عبادته و من ثَمَّ فإنّ الله تعالى يتقبّل عمله وينسبه لذاته العليّة من بين سائر أعماله و هذا الأمر لا يوجد في عبادة أخرى غير الصيام.

و لمّا كان الصّيام بهذه المكانة العظيمة و هذا القَدْر الجليل فقد جعل الله لصائمه،كما ورد في الصّحيحَين و في غيرهما، فرحتَين اثنتين: ( فرحةٌ حين يُفطر و فرحةٌ حين يَلقَى ربَّه...).

هما،إذن، فرحتَان اثنتان إحداهما معجَّلة و الأخرى مؤجَّلة: فأمّا الفرحة المعجَّلة فهي فرحته بإفطاره و أمّا الفرحة الأخرى المؤجَّلة فهي فرحته بصومه حين يلقَى الله.

فأمّا الفرحة الأولى المعجَّلة فقد أشار إليها ابن رجب الحنبلي في كتابه ( لطائف المعارف في ما لمواسم العام من وظائف ) حين قال: « أمّا فرحة الصّائم عند فطره فإنّ النّفوس مَجْبولة على المَيل إلى ما يلائمها من مَطعم ومَشرب ومَنكح.فإذا مُنعت من ذلك في وقت من الأوقات ثمّ أُبيح لها في وقت آخر فَرحت بإباحة ما مُنعت منه خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه فإنّ النّفوس تفرح بذلك طبعًا...».

فرحة الصّائم،إذن، سببُها ما يحصل عليه بالإباحة من أمور هي حبيبة إلى النّفس كالطّعام و الشّراب و المَنكح و هي من الوظائف الحيويّة التي يتوقّف عليها وجود الإنسان و نموّه و استمرار حياته.و هذه الفرحة ،أيضًا، إنّما يُنشئها أو يُضاعفها زوالُ المَنع فيدرك الصّائم ما مُنع منه فإنّه،حينئذ، يفرح بإدراكه لهذا الممنوع لأنّ المنع كان في أمر حبيب إلى النّفس كالطّعام و الشّراب و أحبّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَه.
و يمكنني أن أضيف،في تواضع و وَجَل، سببًا آخر لهذه الفرحة المعجَّلة خلاصتُه أنّ الإنسان المؤمن قد يحقّق في عبادة الصّيام أمرَين جَليلَين و جانبَين عظيمَين و هما: الجانب العِباديّ الذي خُلق له و هو مناط تكليفه و ابتلائه و يحقّق،في الوقت نفسه، الجانب الإنسانيّ حين تسيطر رُوحه على جسده و تتصاعد إرادته فيمتنع،حرًّا مُريدًا لا تابعًا مُكرَهًا، عن طعامه و شرابه و سائر شهواته و لذّاته التي ألِفَها أزمانًا و اسْتنام لها مُددًا و أوقاتًا و يخرج،طاعةً لربّه و انقيادًا له، من سجن عاداته اليوميّة القاهرة و ضغط مطالبه المَألوفة.و كلّ أولئك هو تجسيد للإرادة الفعّالة و ارتفاع عن دَرَكات الحيوانيّة و تحقيق ظاهر لدرجات الإنسانيّة الفائقة.

الفرحة المعجَّلة يوم الفطر،إذنْ، سَببُها نجاحُ الصّائم في تحقيق عبوديّته في أيّام معدودات وَفق نظام معيَّن و توقيت معلوم و نجاحُه،أيضًا، في تحقيق إنسانيّته في عبادة الصّيام بالانتصار على النّفس و التّحكم في مطالبها المتعاقبة و تكبيل نزواتها الآنيّة.و هذان الأمران كلاهما مقصودان مجموعًا و استقلالاً في امتحان رمضان و في غيره.

أمّا فرحة الصّائم الأخرى المؤجَّلة فهي فرحُه بصومه حين يلقَى الله و ما أعدّه الله له من الثّواب و المزيّة و السَّبق.و لكنّ هذه الفرحة ما هي أوصافها ؟ و كيف تكون ؟ و هل هي فرحة كفرحة الدّنيا أم هي فرحة أخرى لها طَعْمها و وَقعُها و سرُّها...؟ و كيف يعيشها الصّائم ؟ و كيف يكون شعوره حين يتحقّق هذا اللّقاء المَهيب في عالم الأرواح و الملكوت...؟

إنّنا لا نعلم شيئًا عن هذه الفرحة و لا نحيط بوصف واحد من أوصافها لأنّها فرحةٌ نَسيجُ وَحْدِها. و لكنّ مجرّد التّفكير في هذا الأمر و إطلاق الخيال لمتابعته و محاولة تصوّره ينقلنا إلى هذه العوالم العُلويّة القُدسيّة الأبديّة التي تَزهو فيها النّفوس فتَنتَشي و ترقص الأروح فتفرح و تتباهَى و حقَّ لها أن تَفرح و تزداد.  

الثلاثاء، 5 أبريل 2022

المنطقة الآمنة

 

هناك تعاريف عديدة للمنطقة الآمنة Comfort zone و لكنّها جميعًا تُجْمع على أنّها حالة نفسيّة يشعر فيها الإنسان بنصيب كبير من الرّاحة و الاطمئنان و الإشباع و الامتلاء بسبب محافظته على مجموعة من عاداته  اليوميّة و سلوكاته المعتادة.و لذّة العادة و المَألوف التي تُنشئها هذه العادات اليوميّة و السّلوكات المعتادة هي التي تجعل هذا الإنسان متشبِّتًا بمنطقته الآمنة غير خارج منها و مقاومًا أو متقاعسًا عن كلّ تغيير.

و قد عرّفها بعضهم بالقول بأنّها المنطقة التي تَقلّ فيها شكوكُنا و هواجسُنا و يَقلّ حِرمانُنا و هشاشتُنا و هي المساحة التي نعتقد أنّنا سنحصل فيها على قَدْر كافٍ من الطّعام و الحبّ و الموهبة و الوقت و الاحترام.إنّها المنطقة التي نشعر فيها أنّ لدينا بعض القيادة و التّحكم.و في داخل هذه المنطقة يمكن للفرد أن يحقّق مستوًى معيَّنًا من السّيطرة مع الشّعور بمستويات منخفضة من التّوتر و القلق يجعلانه قادرًا على تحقيق نِسَب ثابتة و مستمرّة من الفاعليّة و الأداء.

و المنطقة الآمنة هي،أيضًا، أفكار قَبْليّة و تصوّرات أوّلية يأوي إليها الإنسان و يقوم بترديدها و المحافظة عليها دون ابتلائها أو تمحيصها أو التّفكير في تغييرها لأنّها تَهَبُه لونًا من الهدوء النّفسي و المَسرّة و الحُبور.

المنطقة الآمنة،إذنْ، كما يدلّ عليها اسمُها و يَجْلُوه وصفُها هي منطقة الرّاحة و الأمان التي نجد فيه راحتنا النّفسية و الجسديّة بإشباع كلّ لذّاتنا و الاستجابة لكلّ دوافعنا و هي  المنطقة التي تُشْعرنا بالثّقة و السّيطرة و تملأنا باللّذة و السّرور و القناعة و الرّضا لأنّها منطقة عاداتنا اليوميّة الحبيبة إلى أنفسنا التي لا تتغيّر و تصوّراتنا القَبْليّة التي لا تتبدّل و هي،كذلك، المنطقة التي لا تُكلّفنا الجهد الكبير و لا تفرض علينا المعاناة الكُبرى.

  و لكنّ هذه المنطقة الآمنة قد تصبح سجنًا كئيبًا يَشقَى فيه صاحبُه لأنّها ،من قبلُ و من بعد، هي منطقة  الوضع الحالي Status quo  التي تمنعنا من التّقدم و التّطور و التّجديد و تمنعنا من اكتشاف ذاتنا و ابتلاء حدودنا و تجاوز مخاوفنا و تنمية طاقاتنا و مواهبنا و هي شكل من أشكال السّلبية غير المتوافقة مع تحقيق أيّ مشروع.

و رمضان الذي يَعُودنا كلّ عام،كما يعود الطّبيب مَرْضاه، هو مناسبة لخروج الإنسان المؤمن من هذه المنطقة الآمنة التي يكون قد ألِفَها أوقاتًا و اسْتكان لها شهورًا و يكون المِحَكّ الحقيقيّ في هذا الشّهر هو هذه السّؤالات: حين تفارق عاداتك اليوميّة و تتجافى عن سلوكاتك المعتادة و تُمنَع طعامك و شرابك و تُمنَع سائر لذّاتك ما الذي يحصل لك ؟ و ما الذي ينتابك ؟ هل يَتضَعْضع بناؤك فتفقد سيطرتك فتَنتعش فيك حيوانيّتُك و يزداد غضبُك و يَكبر انفعالُك و يَفسد مزاجُك و تتباطأ حركتُك...؟ و هل تتصاعد،في هذا الشّهر، إنسانيّتُك و تَرقى روحانيّتُك فتملك زمام أمرك و تستعيد سيطرتك فتتباعد حيوانيّتُك و تَسمو عواطفك و تَعْلو همّتُك و يتضاعف نشاطك...؟

هذا هو المِحَكّ الحقيقيّ في رمضان و لكلّ واحد منّا نصيبُه من رمضان و على قدر النّيات و العزائم يكون النّجاح و التّوفيق في منطقة رمضان ذات التّوقيت المحدّد و الأيّام المعدودات التي تختلف تمامًا عن المنطقة الآمنة الممتدّة في الزّمان و المكان.

الحوار: 5 أفريل 2022 / العدد: 4579


الثلاثاء، 22 مارس 2022

الإنسان...

 

الإنسان Human هو عنوان الفيلم الوثائقيّ الذي أنجزه Yann Arthus-Bertrand في ثلاث سنوات و مدّته 188 دقيقة و تمّ عرضه سنة 2015.و موضوع هذا الفيلم،كما يدلّ عليه عنوانه، هو الإنسان و يتناول أزمة الأجيال الإنسانيّة المعاصرة التي حقّقت هذه الإنجازات الكبرى في وسائل التّواصل و تقنيّات الإعلام و لكنها عاجزة كلّ العجز عن تحقيق الأمن و السّلام و إقامة التّفاهم و الوئام و تجسيد القُرب و الجوار و العيش المشترك.

و قد حاول هذا الفيلم اكتناه الإنسان و سَبْر الإنسانيّة و عرض صورها و أشكالها و جميع مكنوناتها من خلال شهادات حيّة و اعترافات صادقة لأُناس مختلفي الثّقافات و الألوان عاشوا أوضاعًا صعبة و عانَوا تجارب قاسية و ما خلّفه هذا و ذاك في نفوسهم من عواطف و حقائق   و أمارات و عَقابيل.و قد تبلغ هذه الشّهادات و الاعترافات مستويات عُليا من الصّدق و الحميميّة و عدم التّكلف فترافقها هزّات الضّمير و الدّموع لتكون دليلاً آخر على أصالة معدن الإنسانيّة و ضعفها و انكسارها و إشارة واضحة إلى هشاشتها و تهافتها.

و قد تناول هذا الفيلم،من خلال هذه الشّهادات و الاعترافات جملة من القضايا الكبرى كما تبدو لنماذج مختلفة من البشر و هي: الحياة و الموت و الخير و الشّر و الصّحة و المرض و اللّذة و الألم و الحبّ و الكُره و الغنى و الفقر و الوجود الإنسانيّ و غايته و وظيفته...

إنّ  فيلم الإنسانيّة Human هو لحن الإنسانية بأنغامها المتعدّدة.الإنسانيّة في صورها المختلفة و أحوالها المتناقضة و أشكالها المتداخلة و أوضاعها المتشابكة.الإنسانيّة في صعودها و هبوطها و بساطتها و تعقيدها و صفائها و كَدَرها و إشراقها و طُموسها...و من خلال الشّهادات التي تَتْرى و الاعترافات و من خلال المشاهد القويّة و الصّور و اللّقطات يَقفنا هذا الفيلم على الثّنائية التي يقوم عليها بناء النّوع الإنسانيّ و خطورة وَضعه إذْ هو الوحيد،من بين المخلوقات، القادر على أنْ يَفْجأنا فيحقّق أعلى المراتب في سلّم الإنسانيّة حين يشاء كما أنّه مهيَّأ أو قادر على أنْ يَفجعنا فيهبط هبوطًا شائنًا في دركات الظّلم و الحقد و الوحشيّة و العدوان.

إنّ الألوان التي يَنضح بها فيلم الإنسانيّة Human هي ألوان الإنسانيّة العميقة التي لا نكاد نراها،أحيانًا، و تتقنّع وراء صور العنف و الوحشيّة أو تتَستّر بأسمال كئيبة كالادّعاء و التّعالم و الغرور أو تَنزوي وراء أدوات هدّامة كالحقد و الإقصاء و الكراهيّة و البغضاء و لكنّها،هنالك، قابعة في الكَيْنونة الإنسانيّة.و يكفي إيجاد الظّروف الملائمة و البيئة المناسبة و الإيحاء المطلوب لتستعلن ألوانها الزّاهية و تَنبعث قيمها الخالدة.

و لئنْ كانت مهمّة هذا الفيلم بيان أنّ الإنسانيّة درجاتٌ و دَركات و أنوار و ظلمات فإنّ مجموع الشّهادات و الاعترافات التي عَرَضها و مجموع المشاهد و الصّور و اللّقطات تدفعنا إلى التّفاؤل و القول بأنّ الإنسانيّة،في جوهرها، هي الحبّ و الخير و التّعاطف و العطاء و السّلم و الأمان   و التّواصل و القُرب و البسمة و التّفاؤل و البشاشة و الاستقبال...و قد اعتمد هذا الفيلم للتّأكيد على ماهيّة هذه الإنسانيّة و التّدليل على معناها و الإشارة إلى أوصافها- اعتمد على وقوف كاميرا التّصوير مَليًّا عند الملامح و الوجوه و العيون و النّظرات لأنّ أهمّيتها تفوق،أحيانًا، الألفاظ و الكلمات و إبراز الألوان و الشّيات و العناية بالأصوات و الأصداء...

إنّ ميزة هذا الفيلم الأولى أنّ مجموع الشّهادات التي حَواها و الاعترافات و مجموع القضايا و القيم و الأذواق و الألوان و الأهواء و الميولات كلّ أولئك إنّما تناوله بعيدًا عن حبائل السّياسة و أجوائها الموبوءة و بعيدًا عن ضغط الأفكار المُسْبقة و أوهاق الإيديولوجيّات.و يمكن القول بأنّ هذا الفيلم قد نال الحظوة و حقّق النّجاح لسَبَبين اثنَين.أوّلاً: موضوعه،و هو الإنسانيّة ،الذي يجعله فيلمًا جديدًا يتجدّد.هذه الإنسانيّة التي لا تَبْلَى فينا و لا تَنْمَحي و ننتمي إليها منذ الأزل و تَسكن فينا إلى الأبد.ثانيًا: أنه أفادنا و أمْتعنا بسَيل من الصّور الجميلة و اللّقطات الرّائعة و المشاهد القويّة و الفضاءات الواسعة و الأصوات النّديّة و الأصداء و الأنغام و الألحان و الألوان و الأذواق و الشّيات و العلامات و مجموع الوسائل و التّقنيّات.

و قبل مغادرة هذا المقام أحبّ أنْ أختم هذه الخطوط بكلمات قويّة وردت في هذا الفيلم نطق بها بشر عاديّون و أَناسيّ بُسطاء يتمنَّون،مثلي و مثلك، أنْ يكون لها حقيقة و واقع في هذا العالم المضطرب المجنون و أنْ يكون لها أرض أو وطن أو عنوان:

( علينا أنْ نحبّ كلّ النّاس لأنّ الحُبّ هو الوحيد القادر على إنقاذ هذا العالم ).

( عندما نحقّق التّعاطف مع النّاس و نحاول أنْ نفهمهم لا يمكننا،حينئذ، أنْ نكرههم ).

( لا تَنسَ مَن تكون و ابتسمْ لأنّ الابتسامة هي اللّغة الوحيدة التي يفهمها كلّ النّاس ).


الحوار: الاثنين 21 مارس 2022 / العدد: 4566

 

 


الثلاثاء، 15 مارس 2022

الخطاب النّووي

هناك خطاب تسلّل إلى مواقف الصّراع حول الحرب في أوكرانيا بين موسكو و الحلف الأطلسيّ يمكن الاصطلاح على تسميته ب « الخطاب النّووي ».و قد ظهر هذا الخطاب في كلمة بوتين أو في تهديده،منذ اليوم الأوّل للحرب، لأولئك الذين يحاولون مواجهة جيشه و التّدخل في أوكرانيا بأنّ ردّ روسيا سيكون فوريًّا و يؤدّي إلى عواقب لا قِبَل لهم بها.و ليس بخافٍ أنّه كان يقصد،ضمنيًّا، الحلف الأطلسيّ.و قد ردّ عليه وزير الخارجيّة الفرنسيّ بأنّ الحلف الأطلسيّ هو قوّة نوويّة.ثم أعلن بوتين أخرى،يوم 27 فيفري،أنّه أعطى أوامره لوزير الدّفاع بوضع قوّات الرّدع التّابعة للجيش الرّوسي في حالة تأهّب قتاليّ خاصّ.

السّلاح النّووي يُصنَّف ضمن الأسلحة غير التّقليدية و وظيفة هذا السّلاح النّوويّ هو الرّدع.و الرّدع النّووي هو عقيدة دفاعيّة تقوم على الخوف المتبادل من عواقب الاستخدام الأوّلي للأسلحة النووية أيْ أنّ الذي يستعمل هذا السّلاح أوّلاً سيتكبّد خسائر أكبر في المقابل.و هو ما تشير إليه استراتيجيّة التّدمير المتبادل المؤكَّد Mutual Assured Destruction مع العواقب الوخيمة طويلة المدى في الأرض و حياة النّاس و الكائنات كلّها...و قد استطاعت استرتيجيّة الرّدع النّووي تحقيق توازن الرّعب بين الكتلتين الشّرقية و الغربيّة،بعد الحرب العالميّة الثّانية، خلال الحرب الباردة و تجنيبهما المواجهة المباشرة.

و لم يحدث منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية سنة 1945 أنْ هدّدت دولة نوويّة باستعمال سلاحها النّووي في زمن الحرب.و هذا التّلويح أو هذا التّهديد النّووي بهذا الشّكل لم يحدث حتّى في حَرّ أزمة الصّواريخ النّووية الكوبيّة،في عزّ الحرب الباردة،بين الاتّحاد السّوفياتي سابقًا و الولايات المتّحدة في أكتوبر 1962 و التي كانت موجَّهة،من كوبا، نحو الأراضي الأمريكيّة.و قد انتهت هذه الأزمة التي دامت أسبوعين بسحب الاتّحاد السّوفياتي لهذه الصّواريخ النّووية من كوبا مقابل سحب الولايات المتّحدة لبعض الصّواريخ النّووية من تركيا و إيطاليا مع تعهّدها بعدم غَزو كوبا.و قد أسّس حلّ هذه الأزمة لبداية عهد جديد في العلاقات الدّولية عُرف بسياسة الانفراج التي انتهت مع الغزو السّوفياتي لأفغانستان في نهاية 1979.

و إذا كانت روسيا،كما يقول بعض المختصّين، تملك حوالي 6000 رأس نوويّ مجهَّز و غير مجهَّز فإنّ تهديديها باستعمال السّلاح النّووي هو سابقة خطيرة في العلاقات الدّولية خاصّة بعدما أُصيبت محطّة زابوريجيا،في أكرانيا يوم الجمعة 4 مارس، و هي أكبر محطّة في أروبّا ذات ستّ مفاعلات نوويّة بنيران القذائف الرّوسية مُخلّفة اشتعال النيران في المَبنَى ممّا أثار مخاوف من وقوع كارثة نوويّة ضخمة.

و يتوقّع بعض الخبراء أنّ روسيا إذا ما حقّقت تهديدها فإنّها قد تلجأ إلى استعمال السّلاح النّووي التّكتيكي و هو استعمال محدود للسّلاح النّووي صُمِّم للاستخدام في أرض المعركة ضدّ القوّات المعادية و حشودها و ضدّ معدّاتها العسكريّة و قواعدها و إمداداتها.و تتميّز القنبلة النّووية التّكتيكية بقوّة انفجاريّة ذات 1 كيلوطن في مساحة محدودة.و السّلاح النّووي التّكتيكي يختلف عن السّلاح النّووي الاستراتيجي الذي يتميّز بقوّة انفجاريّة هائلة قد تتجاوز 15 كيلوطن و قد صُمِّم لاستهداف عُمق العدوّ بعيدًا عن جبهة القتال مثل المدن و التّجمعات السّكانية الكبرى و المنشآت الصّناعية و الاقتصاديّة و العسكريّة و كلّ القطاعات الحيويّة و الحسّاسة في الدّولة.

إنّ التّهديد الرّوسي باستعمال السّلاح النّووي هو سابقة خطيرة في العلاقات الدّولية.و إذا كان السّلاح النّووي وظيفتُه هي الرّدع فإنّ الحرب القائمة في أوكرانيا،اليوم، و التي تستهدف القهر    و التّحكم و السّيطرة و توسيع مناطق النّفوذ و ما يُصاحب هذه الحرب أو يُسابقها من أجواء التّوجس و الحذر و المخاوف و الشّكوك و السّوابق و العواطف...كلّ أولئك قد يُخرج هذا السّلاح عن وظيفته الأولى فيُستعمل استعمالاً رهيبًا فيصنع المآسي و الحُطام و الخراب.و مع دخول هذه الحرب أسبوعها الثّاني يبقى هذا السّؤال قائمًا: هل يكون استعمال هذا الخطاب النّووي بهذا الشّكل البَواح،في حملة الغزو الرّوسي لأوكرانيا، إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في العلاقات الدّولية و كيفيّات الصّراع و وسائله و  
     أسلحته  أم هو مجرّد تهديد للمزايدة و المغالاة...؟ 

الحوار 07 مارس 2022 - العدد 4554 

الخميس، 24 فبراير 2022

الأزمة الأوكرانيّة

 

أوكرانيا هي أكبر دولة أروبّية مساحةً: 603.628 كلم مربّع و عدد سكّانها يتجاوز 41 مليون نسمة و هي تقع بكلّيتها داخل القارّة الأروبية.و قد أصبحت دولة مستقلّة سنة 1991 بعد سقوط المنظومة الشّيوعية و تفكّك الاتّحاد السّوفياتي سابقًا.و أوكرانيا عضو في المجلس الأروبّي و هي لا تفتأ،منذ 2013، تطلب الانضمام إلى الاتّحاد الأروبّي لأنّها ستكون،حينئذ، الدّرع الواقي لأوروبّا ضدّ روسيا كما يقول زيلنسكي الرّئيس الأوكرانيّ صراحةً.و هذا السّعي هو الذي تعارضه روسيا  و تعمل على إفشاله و هو سبب الاحتجاجات الدّامية التي بدأت في أوائل سنة 2013.

و أوكرانيا،باللّغة الرّوسية، معناها البلد الحدوديّ.و يُشار إليها،في بعض الكتابات السّياسية، على أنّها دولة عازلة أو دولة حاجزة Buffer State و هو مصطلح بدأ استعماله منذ القرن السّابع عشر في خضمّ سعي الدّول الكبرى،آنذاك، إلى استكشاف الأراضي و الأقاليم و احتلالها.و يعني هذا المصطلح الدّولة التي تقع بين دولتين أو أكثر من الدّول الكبرى المتصارعة.و طبيعة الدّولة العازلة أو الدّولة الحاجزة، حين تكون مستقلّة، أن تتّبع سياسة الحياد لتحافظ على وجودها و تمنع استفحال النّزاعات بين هذه القوى الكبرى التي تنتعش في محيطها.

و لكنّ أوكرانيا بسبب التّاريخ و الجغرافيا و بسبب الاستراتيجيا،أيضًا، اختارت أن تتخلّص من عقابيل ماضيها السّوفياتي و من أوهاق الدّب الرّوسي و أن تكون قبلتها هي أروبّا و أن يصبح مستقبلها هو الانضمام إلى الاتّحاد الأروبّي و الحلف الأطلسيّ و هو أمر منصوص عليه في دستورها.و هذا هو أحد أسباب فصول مأساتها التي لم تَنته منذ 2014 حين أقدمت موسكو على احتلال جزيرة القرم الأوكرانيّة ذات المنافذ البحريّة و ضمّها إلى السّيادة الرّوسية.      

و إنّ الصّراع الذي يتصاعد،هذه الأيّام، و تشتدّ حدّته على أنقاض الأزمة في أوكرانيا له علاقة مباشرة بهذا البلد لأنه مركز هذا الصّراع و مسرحه.و لكنّ له علاقة وثيقة،أيضًا، بالصّراع حول ترتيب الأوراق و توسيع مناطق النّفوذ في أوروبّا عمومًا و في أروبّا الشّرقية خصوصًا بين الحلف الأطلسيّ بقيادة الولايات المتّحدة من جهة و روسيا الاتّحادية ذات الأطماع القيصريّة من جهة أخرى.و إنّ الأحداث المتسارعة و الماضي بحمولته و المستقبل بتطلّعاته و مخاوفه و الجغرافيا  و الاسترتيجيا كلّ أولئك هو الذي جعل أوكرانيا،هذا البلد الكبير في أروبّا، ساحة كبرى تُدَقّ فيها طبول الحرب و تستعلن هذه الإرادات المتصارعة.

و لفهم أسباب ما يجري،اليوم، ينبغي العودة إلى سنة 2013 حين قامت الحكومة،التّابعة لموسكو آنذاك، بإلغاء اتّفاق شراكة سابق مع الاتّحاد الأروبّي و تعويضه باتّفاق مع روسيا.و أعقب هذا الإلغاء حركاتُ احتجاج شعبيّة واسعة دامت أكثر من 90 يومًا اتّهمت روسيا القوى الغربيّة بإشعالها و كان حصيلة هذه الاحتجاجات الشعبيّة أكثر من 100 قتيل وسقوط الحكم الموالي لروسيا.و في جوان 2020 أصبحت أوكرانيا واحدًا من ستّ دول مؤهَّلة للانضمام للحلف للأطلسيّ و تضاعف،منذ ذلك الحين، التّعاون العسكريّ بين حلف النّاتو و أوكرانيا.

و في ظلّ هذه الأجواء المشحونة بالتّوجس و الشّكوك و الحذر طالبت روسيا بضمانات مكتوبة يتعهّد فيها الحلف الأطلسيّ و الولايات المتّحدة بتجميد توسّع الحلف شرقًا و انسحاب القوّات الغربيّة من دول أوروبّا الشّرقية وإعادة الأسلحة النّووية الأمريكيّة المنتشرة في أوروبا و قامت،في الوقت نفسه، بنشر قوّات عسكريّة كثيفة مع معدّات ثقيلة على حدودها مع أوكرانيا منذ نوفمبر الماضي.و الذي زاد هذه الأزمة تعقيدًا إعلان روسيا الأخير الاعتراف بمقاطعتَي الدّومباس ذواتَي الانتماء الرّوسي و الواقعتَين تحت السّيادة الأوكرانيّة و اللّتين كانتا قد أعلنتا انفصالهما عن الحكم المركزيّ منذ 2014.

و إذا كان بعض المحلّلين يستبعدون قيام روسيا بغزو الأراضي الأوكرانية فإنّ إعلانها الاعتراف بمقاطعتَي الدّومباس الانفصاليّتَين و ضمّهما إلى سيادتها يُعَدّ انتصارًا كبيرًا فاجأ الولايات المتّحدة و الأروبّيين اللّذين ليسا مستعدَّين للقتال من أجل أوكرانيا التي ستواجه وحدها شتاء طويلاً باردًا.

و في انتظار أن تحقّق روسيا القيصريّة أو روسيا السّوفياتية المتَّهَمة بمحاولة تفكيك المنظومة الأمنيّة في أروبّا انتصارَها الآخر الذي تتطلّع إليه و تحصل على ضمانات مكتوبة أو ضمنيّة غير معلنة أو تمنع بالقوّة العسكريّة توسّع الحلف الأطلسيّ في مناطق نفوذها التّاريخي فإنّ الأزمة الأوكرانيّة تثبت،مرّة أخرى، أنّ القوّة،و القوّة وحدها، هي التي تحكم العلاقات الدّوليّة في عالم مضطرب لا مكانة فيه للمتردّد و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار طواعيّته و استسلامه.

https://www.elhiwar.dz/journal/226985

  

 

    




السبت، 18 ديسمبر 2021

اللّغة في العصر الحديث

تحتاج المسألة اللّغوية إلى وِقفة متأنّية و تحليل هادئ بسبب ما يَنشأ عن بحثها،في أحايين كثيرة، من عواطف جارفة و مواقف مُتكلِّسة و انفعالات.و يمكن القول،ابتداءً، بأنّ اللّغة ليست حياديّة دائمًا،أو هي ليست حياديّة تمامًا، لأنها تحمل قِيَمًا و تسوق أفكارًا و موازين.و إنه لَيصعُب،في أوضاع عديدة، فصل اللّغة،و هي وسيلة للتّواصل و التّعامل، عن» حَمولتها « أو عن » شُحْنتها «.و الذي أعطى اللّغة كلّ هذه الأهمّية و أحاطها بنوع من الهالة و التّقديس أنها لصيقة بالذّات و بسيادتها و بوجودها في العالم.و لعلّه،لهذا السّبب، قد ارتبطت ارتباطًا شديدًا بالسّياسة و المصالح الاقتصاديّة و استُعملت أداة فعّالة لتحقيق التّوسع و بسط مناطق النّفوذ.

و إنّ العصور الحديثة بما شهدته من صراع على مناطق النّفوذ و الأسواق و بما واكبها من صراعات على الهُويّة و إثبات الـذّات في وسط عالم لا يعترف إلاّ بمنطـق القـوّة و السّيطرة و القهر و الاستعلاء و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار خضوعه و طواعيّته و استسلامه...إنّ عصورًا هذا شأنُها و عالَمًا هذا حالُه قد أعطى اللّغة بُعْدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها سلاحًا خطيرًا يوازي في آثاره أسلحة الفتك و الدّمار الأخرى.و لم تَعُـد اللّغـة هـذه الوسيلـة الحيـاديّـة التي تحقّق تواصل النـّاس و تعارفهم و تنظـّم علاقاتهم و تقرّبهم بل أصبح لها شأن آخر و أيُّ شأن !

كلّ هذه الأوصاف،إذن، هي التي أعطت اللّغة بعدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها موضع عناية و اهتمام فائقَيْن.

و لكنّ اللّغة إذا كانت بهذه القيمة و هذا الوزن فما ينبغي أنْ يتحوّل النّشاط لها و الموقف تجاهها و العناية بها إلى نوع من الحساسيّة المَرَضِيّة و التّطرف الأعمى كاللذَين نلمسهما في مواقف بعض المؤسّسات الفرنسيّة الرّسمية كالفرنكفونيّة التي تمارس سياسة الإقصاء و التّهميش ضدّ اللّغات الأخرى لتحقيق السّيطرة المطلقة للّغة الفرنسيّة و ثقافتها خدمةً لأهداف سياسيّة و اقتصاديّة.

و قد أصبحت اللّغة الفرنسيّة أداة قهر و إذلال تتبنَّى كلّ وسائل المكر و الخبث و الاستئصال ضدّ لغات بعض الشّعوب و آدابها حين أعطتها الفرنكفونيّة مفهومًا سياسيًّا و طابعًا استعماريًّا » لا يَقبل واقع تطوّر الأشياء (...) من أجل استعمالها كوسيلة للتّفاوض من أجل إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه و منع التّغيير في بعض البلدان بل أكثر من ذلك استعمالها كوسيلة لمحاربة اللّغات الوطنيّة و اللّغات الأم...« كما يقول المهدي المنجرة في كتابه ( الحرب الحضاريّة الأولى ).

و ليس بخافٍ أنّ » مشكلة اللّغة « أو » مشكلة اللّغات « حاضرة في العلاقات الدّولية المعاصرة.فالصّراع،مثلاً، قائم بين الإنجليزيّة و الفرنسيّة و هو يتّخذ أشكالا مختلفة و مظاهر.و هذا الصّراع نفسه تشهده بعض هياكل الاتّحاد الأروبّي: فالفرنسيّة،كعادتها، تبغي الوجود المُهيمِن و السّيطرة على كلّ المجالس و الهيئات و اللّغات الأروبيّة الأخرى تطالب،هي كذلك، بحقّها في الوجود و الاستعلان.و هذا الصّراع اللّغوي ثابت قائم و لكنّ الدّول الكبرى تحرص على إخفائه و التّهوين من قيمته و شأنه لأنّ إظهاره و جلاءه قد يشجّع دول العالم الثالث الواقعة تحت وطأة الغرب الحضاريّة و يدفعها إلى المطالبة بحقوقها الثقافية و اللّغوية و هذا ما يخشاه الغرب و لا يسمح به لأنه إيذان بنهاية سيطرته و إعلام بزوال قيادته.

إنّ خلاصة ما يمكن التّأكيد عليه،في هذا المقام، أنّ أيَّ موقف من اللّغة و كلّ سياسة توضع لحمايتها و صيانتها ينبغي أنْ تَضع في الحُسبان أمرَين اثنين أساسيَّين: أوّلهما أنّ اللّغة مسألة سـيادة و إثبات للذّات و تأكيد للوجـود و أنّ العبث بها هـو عَبَث بهذه السّيادة و إفناء للذّات و إلغاء لهذا الوجود.و ثانيهما أنّ العناية باللّغة الأمّ و صيانتها لا يَعني تهميش اللّغات الأخرى أو ضرب الحصار حولها أو مطاردتها.و كلّ سلوك من هذا القَبيل هو من الحساسيّة الزّائدة و التّطرف الأعمى و هو،قبلُ، مُصادم لهذا التّنوع و الاختلاف اللّذَين يقوم عليهما الكون و العالم.  

و بمناسبة اليوم العالميّ للّغة العربيّة فإنّ أسئلة جادّة من هذا القَبيل تَقِفُنا: ما هو حال اللّغة العربيّة اليوم ؟ و لماذا استحالت لغةً ميِّتة أو منبوذة يَتجهَّمها أهلُها قبل الأباعد و الخصوم ؟ و ما الذي كتب للّغة العربية ذلك الذّيوع و الانتشار إبّان الحضارة العربيّة الإسلاميّة ؟ و ما الذي جعلها تحظى بذلك القَبول و تفوز بتلك المزيّة بين شعوب البلاد المفتوحة فتصبح لغتهم الأولى ؟ و ما هي الأسباب التي هيّأتها لهذه المكانة و حقّقت لها هذه الهيمنة و السّيادة فأصبحت لغة عالميّة تَستوطن القلوب و العقول قبل أن تسكن بطون الكتب و المجلّدات و صفحات المعاجم و الموسوعات ؟

هل هو الإسلام الذي نزلت كلمتُه الخاتمة متلبِّسةً بهذه اللّغة و ناطقة بها ؟ لا اعتقد ذلك لأنّ هذا الدِّين لا يزال قائمًا إلى اليوم و يَفوق عدد أتباعه المليار نسمة و ليس هناك لغة منفيّة بين أهليها أو مُهانة بين الأباعد كما هو حال اللّغة العربيّة التي تَلقى مِن مظاهر الازدراء و الإقصاء و التّهميش ما تَلقى.

هناك،إذن، أسباب أخرى و عوامل مختلفة هي التي صنعت للّغة العربية دعائم انتشارها و أُسس تفوّقها و هيّأتها لهذا الدّور العالميّ الكبير الذي قلَّما حَظيت به لغة أخرى مِن قبلُ و من بعدُ.و هذه الأسباب الموضوعيّة يَحسُن بنا اليوم،و نحن في الألفيّة الثالثة، أن نقف عندها وِقفة متأنّية لنبحثها و نحلّلها و،كذلك، لنختبرها و نَبْتليها علَّها تُكون عَونًا لنا في استبانة الأمور و وضوح الرّؤيا و تحقّق،لَدَينا، وعيًا جديدًا نتسلّح به لاستدراك ما فاتَنا من أمورنا في شؤون اللّغة العربيّة و في أمر نهضتها.

إنّ اللّغة انعكاس للمستوى الحضاريّ لأيّ أمّة من الأمم و مرتبطٌ وضعُها بوضع أهلها النّاطقين بها و هي،كذلك، صورة حقيقيّة لهذا المستوَى قوّةً و ضعفًا و صعودًا و هبوطًا.و أحبّ أنْ أُضيف،إمعانًا في الوضوح و البيان، أنّ صحّة اللّغة و اعتلالها و قوّتها و ضعفها و نموّها و ضمورها و إشعاعها و طموسها و جاذبيّتها و شحوبها و حيويّتها و ترهّلها و انتشارها و انكفاءها...كلّ أولئك إنّما هو ناشئ،ابتداءًا، ممّا يَلحق أهْلِيها النّاطقين بها من صحّة و اعتلال و قوّة و ضعف و حيويّة و ترهّل في حياتهم العامّة و الخاصّة و في جملة أحوالهم النّفسية و الفكريّة و العلميّة و الثّقافية و في مجموع أوضاعهم السّياسية و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة...

و إنّ هذا المستوى الحضاريّ التي سبقت الإشارة إليه هو الذي تَمثّل في نفوس العرب و المسلمين الفاتحين فجعلهم جديرين بالسّيادة و جديرين بقيادة البشريّة و جَعَل أفئدة من الناس تَهْوي إليهم و تَخْطُب وُدّهم و تُذعن لهم و تحتضن دينهم و تتبنّى لغتهم.و إنّ أظهر عنصر في الحضارة العربيّة بل إنّ أكبر تَجَلٍّ لهذا المستوى الحضاريّ الفائق إنّما هو تلك الرّوح التي غرسها الإسلام في نفوس العرب و المسلمين حين وَجد قلوبًا ملتهبة تحتضنه و عقولاً نيِّرة تستوعبه و نفوسًا كبارًا ترتقي،على الدّوام، إلى عظمته و مستواه.و بسبب هذه الرّوح المُهيمِنة الغالبة فإنّ شيئًا لم يقف في طريق هذه الحضارة أو يمنع سيرها حين طفِقت،في الأقاليم و الأراضين، تَندفع وتتوسّع و تتمدّد و تستطيل.

إنّ هذا المستوى الحضاريّ و مظاهر الغَلَب و ملامح القوّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة هي التي كتبت الذّيوع  و الانتشار للّغة العربيّة و أهّلتها لأنْ تكون اللّغة العالميّة ذات المكانة و الحضور و الهَيبة و الاعتبار.

و إذا كان ابن خلدون قد أثبت « أنّ المغلوب مُولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره و زيّه و نِحْلته و سائر أحواله و عوائده...» فإنّ هذا الأمر قد تحقّق بنصيب كبير للعرب الفاتحين إذْ كانت لهم الغلبة حضاريًّا ولم يكن مِن بُدٍّ،حينئذ، أنْ تخضع لهم شعوب الأرض قاطبةً خضوع التّلميذ للأستاذ فتتبنَّى دينهم و لغتهم و ثقافتهم و جلَّ شعارهم و أزيائهم و أذواقهم.          


الجمعة، 10 ديسمبر 2021

في ذكرى الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان

                                           

يحتفل العالم،هذه الأيام، بالذّكرى 73 لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كلّ عام.و إذا ذهبنا،اليوم، نبحث عن مِصداق لهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد 73 من صدوره و نتحقّق من فاعليّته و جدواه و نتأكّد من رصيده في حياة الناس و مغزاه فماذا نحن واجدون ؟ لا شيء.أو فَلنقُل إنّا واجدون كلّ شيء مؤلم محزن و مدمِّر و مُميت.

لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتّع بحقّ الفيتو في مجلس الأمن و دول أخرى تسير في ركبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعًا باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس و في الأجيال المتعاقبة و في البيئة و في كلّ مكان.و بعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا تزال بنوده،رغم دلالاتها الواضحة و القطعيّة، تُفسّر تفسيرات عديدة متحيِّزة و تُشرح شروحًا مُوجَّهَة تبعًا لأهواء الدول الكبرى و مصالحها المختلفة و أهدافها الاستعمارية.

و إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالميّة و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتَها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم و أقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948.و كأنّ ميلاد هذا الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مبتغاه.

فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟

و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق،سابقًا، و يحصل في غزّة،اليوم، و في فلسطين.

و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في كلّ مكان كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.

و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية التي يتفنّن فيه الغربيّون و الاعتداءات الجنسية الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.

و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارهم و مأواهم و يسلبهم أسباب الرزق و يحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما يحدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.

و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يحزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا و دماء الضّعفاء و المنبوذين قاطبةً،في العالم، الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَنطق و يصرخ و يَعد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تُهان الأقليّات المسيحيّة أو الأقليّات الأخرى التي تخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.

إنّ الجرائم التي ارتكبها الغرب باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و باسم قيم الحرّية و العدالة لا تُعدّ و لا تُحصى.فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربيّة في الفيتنام و أفغانستان و في باكستان و الصّومال و العراق و قبل ذلك في هيروشيما و ناغازاكي في اليابان...و هذه الجرائم قد أتَت على الأخضر و اليابس و لا يزال النّاس،إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم و عقابيلها و دمارها.أمّا فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتلّ الصّدارة في تاريخها الاستعماري الأسود.و لا تزال فرنسا إلى اليوم دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت و تصنع الدّمار،في إفريقيا و في كلّ مكان، و تمارس الإرهاب الدّولي باسم حقوق الإنسان و قيم الحرّية و العدالة و المساواة تحقيقًا للسيطرة و التّملك و الإذلال.و قد بلغ القبح و الافتراء بفرنسا،بلد الحرّيات، حدًّا لا يُطاق فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فيفري/شباط سنة 2005 الذي يمجّد الاستعمار الفرنسيّ و يُشيد بمنافعه و بمزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له !

و الذي يُقضَى منه العجب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانيّة الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربية و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربية فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تعنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القهر و الإرهاب و الاستئصال.و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا حاقدًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يَجِنّ جُنونهم،كما يقول المؤرّخون، فيحرقون و يدمّرون و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين يختلفون عنهم و لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبة في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.و إنّ المتأمّل في الأحداث المعاصرة لا يفوته ملاحظة أنّ الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه،دائمًا، الرّغبة الأمريكية و الأروبية في استعمار الدول و إذلال شعوبها و كثيرًا ما تتّخذ مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وسيلةً لغزو مجتمعات العالم الثالث و تفكيكها أو تغيير ثقافتها و نمط الحياة فيها و أساليب التفكير.

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ببنوده الثّلاثين التي احتواها كان ممكنًا أنْ يحقّق بعض العدالة و الحرّية و بعض الكرامة و المساواة و يقضي على بؤر التّوتر في العالم و يخفّف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الضّعفاء و المحرومين فوق هذه الأرض.و لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق لأنّ الكبار المنتصرين،بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و سطّروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية و العدالة و الحقّ و المساواة و الكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم أو أنْ تسود.و كيف يفعلون ذلك و هم أوّل من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة و أوّل من يدوسها و يُهينها و أوّل من يقتلها و يُفنيها ؟

هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان بالضغوط المختلفة و الإملاءات و استعمال القوة و الإرهاب.و هذا هو واقع الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد 73 سنة من صدوره و هذا هو التّلاعب الذي لحقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخراب و الدّمار الذي أُنجز تحت لوائه.

و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد و أنْ يستعيد الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان فاعليّته و جدواه حين تستعيد شعوب الأرض المُحبّة للسّلام زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ هذا الإعلان العالميّ سيظلّ مبرِّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال و وسيلة للقهر و الإذلال و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضرُّها أكبر من نفعها.


اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/