الثلاثاء، 22 مارس 2022

الإنسان...

 

الإنسان Human هو عنوان الفيلم الوثائقيّ الذي أنجزه Yann Arthus-Bertrand في ثلاث سنوات و مدّته 188 دقيقة و تمّ عرضه سنة 2015.و موضوع هذا الفيلم،كما يدلّ عليه عنوانه، هو الإنسان و يتناول أزمة الأجيال الإنسانيّة المعاصرة التي حقّقت هذه الإنجازات الكبرى في وسائل التّواصل و تقنيّات الإعلام و لكنها عاجزة كلّ العجز عن تحقيق الأمن و السّلام و إقامة التّفاهم و الوئام و تجسيد القُرب و الجوار و العيش المشترك.

و قد حاول هذا الفيلم اكتناه الإنسان و سَبْر الإنسانيّة و عرض صورها و أشكالها و جميع مكنوناتها من خلال شهادات حيّة و اعترافات صادقة لأُناس مختلفي الثّقافات و الألوان عاشوا أوضاعًا صعبة و عانَوا تجارب قاسية و ما خلّفه هذا و ذاك في نفوسهم من عواطف و حقائق   و أمارات و عَقابيل.و قد تبلغ هذه الشّهادات و الاعترافات مستويات عُليا من الصّدق و الحميميّة و عدم التّكلف فترافقها هزّات الضّمير و الدّموع لتكون دليلاً آخر على أصالة معدن الإنسانيّة و ضعفها و انكسارها و إشارة واضحة إلى هشاشتها و تهافتها.

و قد تناول هذا الفيلم،من خلال هذه الشّهادات و الاعترافات جملة من القضايا الكبرى كما تبدو لنماذج مختلفة من البشر و هي: الحياة و الموت و الخير و الشّر و الصّحة و المرض و اللّذة و الألم و الحبّ و الكُره و الغنى و الفقر و الوجود الإنسانيّ و غايته و وظيفته...

إنّ  فيلم الإنسانيّة Human هو لحن الإنسانية بأنغامها المتعدّدة.الإنسانيّة في صورها المختلفة و أحوالها المتناقضة و أشكالها المتداخلة و أوضاعها المتشابكة.الإنسانيّة في صعودها و هبوطها و بساطتها و تعقيدها و صفائها و كَدَرها و إشراقها و طُموسها...و من خلال الشّهادات التي تَتْرى و الاعترافات و من خلال المشاهد القويّة و الصّور و اللّقطات يَقفنا هذا الفيلم على الثّنائية التي يقوم عليها بناء النّوع الإنسانيّ و خطورة وَضعه إذْ هو الوحيد،من بين المخلوقات، القادر على أنْ يَفْجأنا فيحقّق أعلى المراتب في سلّم الإنسانيّة حين يشاء كما أنّه مهيَّأ أو قادر على أنْ يَفجعنا فيهبط هبوطًا شائنًا في دركات الظّلم و الحقد و الوحشيّة و العدوان.

إنّ الألوان التي يَنضح بها فيلم الإنسانيّة Human هي ألوان الإنسانيّة العميقة التي لا نكاد نراها،أحيانًا، و تتقنّع وراء صور العنف و الوحشيّة أو تتَستّر بأسمال كئيبة كالادّعاء و التّعالم و الغرور أو تَنزوي وراء أدوات هدّامة كالحقد و الإقصاء و الكراهيّة و البغضاء و لكنّها،هنالك، قابعة في الكَيْنونة الإنسانيّة.و يكفي إيجاد الظّروف الملائمة و البيئة المناسبة و الإيحاء المطلوب لتستعلن ألوانها الزّاهية و تَنبعث قيمها الخالدة.

و لئنْ كانت مهمّة هذا الفيلم بيان أنّ الإنسانيّة درجاتٌ و دَركات و أنوار و ظلمات فإنّ مجموع الشّهادات و الاعترافات التي عَرَضها و مجموع المشاهد و الصّور و اللّقطات تدفعنا إلى التّفاؤل و القول بأنّ الإنسانيّة،في جوهرها، هي الحبّ و الخير و التّعاطف و العطاء و السّلم و الأمان   و التّواصل و القُرب و البسمة و التّفاؤل و البشاشة و الاستقبال...و قد اعتمد هذا الفيلم للتّأكيد على ماهيّة هذه الإنسانيّة و التّدليل على معناها و الإشارة إلى أوصافها- اعتمد على وقوف كاميرا التّصوير مَليًّا عند الملامح و الوجوه و العيون و النّظرات لأنّ أهمّيتها تفوق،أحيانًا، الألفاظ و الكلمات و إبراز الألوان و الشّيات و العناية بالأصوات و الأصداء...

إنّ ميزة هذا الفيلم الأولى أنّ مجموع الشّهادات التي حَواها و الاعترافات و مجموع القضايا و القيم و الأذواق و الألوان و الأهواء و الميولات كلّ أولئك إنّما تناوله بعيدًا عن حبائل السّياسة و أجوائها الموبوءة و بعيدًا عن ضغط الأفكار المُسْبقة و أوهاق الإيديولوجيّات.و يمكن القول بأنّ هذا الفيلم قد نال الحظوة و حقّق النّجاح لسَبَبين اثنَين.أوّلاً: موضوعه،و هو الإنسانيّة ،الذي يجعله فيلمًا جديدًا يتجدّد.هذه الإنسانيّة التي لا تَبْلَى فينا و لا تَنْمَحي و ننتمي إليها منذ الأزل و تَسكن فينا إلى الأبد.ثانيًا: أنه أفادنا و أمْتعنا بسَيل من الصّور الجميلة و اللّقطات الرّائعة و المشاهد القويّة و الفضاءات الواسعة و الأصوات النّديّة و الأصداء و الأنغام و الألحان و الألوان و الأذواق و الشّيات و العلامات و مجموع الوسائل و التّقنيّات.

و قبل مغادرة هذا المقام أحبّ أنْ أختم هذه الخطوط بكلمات قويّة وردت في هذا الفيلم نطق بها بشر عاديّون و أَناسيّ بُسطاء يتمنَّون،مثلي و مثلك، أنْ يكون لها حقيقة و واقع في هذا العالم المضطرب المجنون و أنْ يكون لها أرض أو وطن أو عنوان:

( علينا أنْ نحبّ كلّ النّاس لأنّ الحُبّ هو الوحيد القادر على إنقاذ هذا العالم ).

( عندما نحقّق التّعاطف مع النّاس و نحاول أنْ نفهمهم لا يمكننا،حينئذ، أنْ نكرههم ).

( لا تَنسَ مَن تكون و ابتسمْ لأنّ الابتسامة هي اللّغة الوحيدة التي يفهمها كلّ النّاس ).


الحوار: الاثنين 21 مارس 2022 / العدد: 4566

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/