الأحد، 1 يوليو 2018

الصّيفَ ضيَّعتِ اللّبن





الصّيف موسم ثقيل على النّفس لحرارته و قِصر لَيله و طول نهاره.و لا تتأذَّى السّاعة البيولوجيّة في مَوسم كما تتأذَّى في فصل الصّيف لأنّ غالبيّة النّاس لا يَقدرون على ضَبط نظام حياتهم،في هذا الموسم، تَبَعًا لما كان عليه في ما مضَى من المواسم و الشّهور.
و لكنّ الصّيف،بعد هذا أو رَغم هذا، له معنًى خاصّ عند معظم الناس و مكانته لا تَحظَى بها المواسم الأخرى لأنه أشبه بالمحطّة الأخيرة في قطار الحياة السّنويّ التي يتطلّع إليها كلّ الرّكاب و يَستعجلون أوانها لينزلوا من هذا القطار الذي رجّهم رجًّا و أرهقهم رَهقًا و أتعبهم و أنْهك قُواهم و ضَغَط أعصابهم و أَثْلم أبدانهم و حمّلهم،شهورًا طوالاً، ما لا يُطيقون...يَستعجلون أوانَ الصّيف،إذنْ، و يَهَشّون لقُربه لينزلوا من هذا القطار و يترجّلوا قليلاً و يتخلّصوا من بعض الأعباء و يتخفّفوا من بعض التّكاليف...
الصّيف،بهذا المعنى، حبيب إلى النّفس لذيذ إلى القلب لأنه موسم الدَّعة و السّكون و الرّاحة و الاستجمام و التّنقل و التّرحال و الغَفلة و التّخفف و الفرحة و الانطلاق...تذوق النّفس فيه راحتها فتَستعيد اتِّزانها و تَستدرك ما فاتها.و لكنّ الصّيف،بسبب طبيعته الخاصّة، قد يَجني على صاحبه فيكون فصل الخسارة و الفَقد و الحَسرة و الجَدب.فَلْيَحرص العاقل على أنْ لا يَكون حاله،في هذا الفصل، شبيهًا بحال  دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة  التي ضَيّعتْ في الصَّيف اللّبن.

السبت، 30 يونيو 2018

الاهتمام العربي بتركيا













يتابع العرب،باهتمام كبير، مجموع الأحداث و التّطورات التي تشهدها تركيا.و الانتخابات الرئاسية و النّيابية الأخيرة أكّدت حجم هذا الاهتمام و درجته. و لكنّ السّؤال هو: لماذا هذا الاهتمام العربيّ الشّعبيّ و الرّسميّ بمجموع الأحداث و الشؤون التركية ؟
أوّل أسباب الاهتمام العربيّ الواسع بتركيا و شؤونها هو التّجربة التي يخوضها هذا البلد منذ بداية هذه الألفيّة إذْ هي تجربة فريدة استطاعت تحقيق الزواج البديع بين جملة من المتناقضات. فكأنّ العرب الذين يئنّون تحت أنظمة الاستبداد المترهِّل الذي قتل فيهم إنسانيّتهم و دفن مواهبهم و عطّل طاقاتهم و صيّرهم أرقامًا مجهولة - كأنّهم يجدون في التّجربة التركية متنفّسًا لأوضاعهم الخانقة و مَخرجًا مأمولاً لظروفهم البائسة و نموذجًا يتطلّعون إليه و يؤملون قيامه في أوطانهم.
أمّا السّبب الثّاني فهو تاريخيّ و توضيح الأمر أنّ العرب دخلوا التّاريخ قبل الأتراك و صنعوا حضارة كبرى لا تزال أجيال الإنسانيّة المتعاقبة تستفيد من ثمارها. و لكن حين صَغُرت همّتهم و انحصرت اهتماماتهم و ضاقت عُقولهم و اخْتفت مساحات المُثُل و الأفكار في حياتهم زالت قوّتهم فخَبَت جَذْوتهم و تسلّم المشعل منهم الأتراك الذين أدَّوا دورهم التاريخي الكبير في مسيرة الحضارة الاسلامية.
هذا اللّقاء التّاريخي بين العرب و الأتراك لم تَصنعه العروبة الدّاعر التي وَهبت أرضنا و عِرضنا للصّهيونيّة تَستبيحها و لم تصنعه سياسة التّتريك الظّالمة،في أواخر الدولة العثمانيّة، التي كانت سبب القطيعة التّاريخية بين الشّعبَين و أحد أسباب انهيار الدّولة الإسلامية الكبرى التي تزعّمتها الآستانة.
يحصل عندنا،بعد هذا التّحليل، أنّ الإسلام هو اللُّحمة و السَّدَى في العلاقات العربيّة التّركية و هو سبب الالتفات العربيّ الكبير لما يجري في تركيا من أحداث و تطوّرات.
و لكن.. هل يمكن للعرب أنْ يستفيدوا من التّجربة التركية ؟ و ما هي حدود هذه الاستفادة ؟ أسئلة كبيرة و جادّة من هذا القَبيل موضوعة أمام ذَوي النّباهة و الفكر و كلّ المهتمّين بإصلاح الأوضاع العربيّة البائسة التي بلغت مستوى من البؤس و الإفلاس لا يُضاهَى.

الأربعاء، 7 يونيو 2017

آخر الرجال


قدمت الفضائيّة الأروبية Arte يوم 06/6/2017 فيلمًا وثائقيًّا عنوانه: Les derniers Hommes ( آخر الرّجال ) يتحدّث عن يوميّات الخُوذ البِيض Les Casques Blancs و هم مجموعات من رجال حلب آثَرت البقاء في المدينة الشَّبَح و أصبح همّهم الوحيد و هدفهم الكبير هو إنقاذ المدنيِّين الذين يَرقدون،أو يَموتون، تحت الحُطام و الهدم و الأنقاض التي خلّفها القصف الحاقد و الأعمى لطائرات النّظام السّوريّ و الوحوش الرّوس.
و تتداخل،في هذا الفيلم الوثائقيّ، عواطف كثيرة متناقضة كاليأس و الأمل و الخوف و الأمن و الفرحة و الحزن و الحبّ و الكره و الغضب و السّكون و المقاومة و التّسليم...و كلّ هذه العواطف تضاعف من إنسانيّة هذه النّماذج البشريّة المتميّزة التي رضِيت معايشة الموت و الفناء لتنقذ ما يمكن إنقاذه من أطفال و رُضَّع،تحت الدّمار، و نساء و شيوخ لا ذَنب لهم و لا حِيلة... 
و من مشاهد هذا الفيلم القويّة التي تقشعرّ لها الجلود و تنهمر لها العيون رؤية الخُوذ البِيض،هؤلاء الأشاوس الأبطال، يُخرجون من تحت الأنقاض مخلوقات بشريّة صغيرة يصل طُولها 50 سم مُغبرّة مُنهكة مُغمضة العينين فاقدة الوعي.
 و في هذه اللّحظات القويّة ترى الخُوذ البِيض،هؤلاء الرّجال العِظام الذين يتعرّضون للموت لإنقاذ الآخرين من الموت، تَرى أعيُنَهم تَفيض من الدّمع يتباكَون فتبكي معهم و أنت البعيد عنهم و عن واقعهم لأنّ إنسانيّتهم أكبر من الموت المسلَّط عليهم و أكبر من الوحشيّة و الأحقاد و هي إنسانيّة عابرة للزّمان و المكان متمرّدة على كلّ السّدود و الحدود.
إنّ فيلم ( آخر الرّجال ) هو درس في الإنسانيّة حين تُبعث من مَرقدها و تَستعلن فتحقّق المعجزات. إنّ مِيزة هذا الفيلم الوثائقيّ أنه فيلم يُخرجنا من غَفلتنا ليُخاطب فينا إنسانيّتنا و من ثَمَّ فإنه فيلم ينبغي مشاهدته لكلّ مَن أراد أنْ تَبقَى حيَّةً فيه إنسانيّتُه التي يَبدو أنها قد ماتت في أعماق هذا العالم المجنون.

وان التي رأيت


لقد شاءت الأقدار أنْ أزور مدينة وان،لؤلؤة الشّرق التّركي، ذات الأغلبيّة الكرديّة و التي تبعد عن اسطنبول بأزيد من 1500 كلم في إطار مؤتمر دوليّ عنوانه: نظرة استراتيجيّة للعالم_الإسلامي في_القرن_الواحد والعشرين فرص تطورات مشاكل وحلول أيّام 10- 14 ماي 2017.
و الحقّ أنّ هذه الزيارة كانت مفيدة من كلّ الجوانب و ممتعة.و قد خلّفت في النّفس مجموعة من المعاني و الأفكار أحبّ تسجيلها في هذا الفضاء.
 إنّ الذي يَلفت الانتباه ابتداء،في مدينة وان، هو نظافة شوارعها و خلو أزقّتها من الأوساخ و النّفايات فلا تكاد تجد في طريقك ما يَصدم ذوقك أو يُقزّزك أو ما يجعل ملامحك تنقبض.
و الحقّ أنّ العناية بالنّظافة في اللّباس و البدن و في البيئة و المحيط ليست أمرًا ثانويًّا بل هي دليل وَعي و علامة نضج و عنوان حضارة و حضور.
 إنّ النّظافة قيمة مضافة و دلالتها لا تختفي و لا تتقنّع و إنّ العناية بها ليست أمرًا هيِّنًا على مستوى الآحاد و الجموع فكيف الحال حين تصبح سلوك مدينة بأكملها و عناية أهلها و اهتمام مؤسّساتها و مَعلمًا من معالمها ؟   الأمر الآخر اللاّفت للانتباه هو هيمنة اللّغة التّركية،دون سواها، على الحياة اليوميّة،في مدينة وان، و تزيينها لعناوين محلاّتها التّجارية و بناياتها الرّسميّة و مؤسّساتها المختلفة. و قد يَعيب بعضُ النّاس هذا السّلوك بحجّة أنّ السّائح أو الضّيف،الذي يجهل هذه اللّغة، قد يجد بعض العَنَت و المشقّة و لا يَسهل عليه الوصول إلى غايته و قضاء حوائجه.
 و لكنّ الجانب الإيجابيّ في هذا السّلوك خلاصته أنّ العناية باللّغة الأمّ ،بهذا الشّكل، هُو دليل على أنّ هذه الأمّ لم يَمُت حبُّها،في القلوب، بعد الكهولة و الاستواء و لم يَذْوِ عِشقها و لم يَنقطع. و كأنّ الأتراك، بهذا السّلوك، يقولون لنا: إنّ الآخرين سيحترموننا حين نحترم لغتنا وإنّ هذا الاحترام الذي نُبديه تجاه لغتنا هو الذي سيشعر به الآخرون نَحوَنا و نحو لغتنا.
 و كأنّ الأتراك،أيضًا، ينطلقون من حقيقة نفسيّة ثابتة و هي أنّ الآخرين لا يحترمونك أبدًا إذا لم تكُن أنت محترمًا لانتمائك ومحترمًا لتاريخك و لغتك.و المتابعون للشّأن التّركي،في ميادينَ مختلفة كالسّياسة و الثّقافة و الاقتصاد، يَلمسون مِصداق هذا الأمر و لا يَخفَى عليهم ظهورُه و قيامه.
و كذلك يَلفت انتباه الزّائر،في مدينة وان، عناية أهلها بالمعالم و الآثار و إحاطتها بهالة من القداسة و الاحترام و الحرص على حضورها أو حضور معانيها في المناسبات و التّجمعات.و لا يَخفَى أنّ العناية بالمعالم و الآثار هي تواصل مع الماضي،بشكل من الأشكال، و اعتزاز بقيمه و معانيه و هي،كذلك، تجسيد للوفاء و تأكيد للانتماء و إثبات للوجود.                           
أمّا زلزال 23 أكتوبر 2011 الذي أصاب مدينة وان و خلّف مئات الضّحايا و المصابين و تسبّب في سقوط العديد من المنازل و البنايات- أمّا هذا الزّلزال فإنّ آثاره لا تكاد تُبين و ليست بادية للعَيان إذْ المدينة،كلّها أو جُلّها، بنايات حديثة و مشاريع جديدة.و كلّ ما في المدينة يَنضح بالحركة و الحياة و يُوحي بالتّجدد و الانبعاث و المغالبة و الاندفاع و يدلّ على أنّ إرادة الحياة،عند سكّان وان، هي أكبر من الموت و الدَّمار و أكبر من الزّلزال و آثاره.
 فكيف استطاعت مدينة واقعة في أقصى شرق البلاد و كانت ضحيّة الزّلزال و آثاره أنْ تُغالب الموت و اليأس و تصنع الأمل و الحياة ؟ إنه الإنسان.و هو وحده القادر على تحقيق مثل هذه المنجزات و أكبر منها و أعظم حين يكون هو مركز العناية و الاهتمام و حين يصبح عُملة التّداول الحقيقيّة و القيمة الكبرى في كلّ الأعمال و المشاريع.
 أمّا طِيبة أهل وان و دماثة أخلاقهم و سهولة تعاملهم و فَيض محبّتهم و زائد كَرمهم و حُسن ضيافتهم فقد لمستُه،و لمسه غيري، مدّة إقامتنا في هذه المدينة ذات الطّبيعة السّاحرة و المناظر الخلاّبة.
 فشكرًا لأهل مدينة وان على جميل كرمهم و طِيب طويَّتهم و شكرًا لكلّ المسؤولين الذين سهّلوا لي،و لغيري، فرصة زيارة هذه المدينة ذات الحُسن و الجمال.

الخميس، 21 يوليو 2016

الخطاب السّياسيّ الرّسميّ في تركيا



الخطاب السّياسيّ الرّسميّ،في أيِّ دولة، يدلّ على طبيعة هذه الدّولة و يعبّر عن ماهيِّتها و موقفها من الأحداث و المستجدّات و يَكشف عن ضعفها أو قوّتها و هو يدلّ،في الوقت نفسه، على مَدى تمتّع الدّولة، أيِّ دولة، بسيادتها الكاملة و استقلال قرارها السّياسيّ.و إنّ المتابع للشّأن التّركي منذ عَقد أو يزيد و المتأمّل في الخطاب السّياسيّ الرّسميّ طُول هذه الفترة يَلمس حرص السّاسة الأترك على الإعلان عن سيادتهم و استقلال قرارهم السّياسيّ.
و قد أكّدت أحداث الانقلاب الفاشل الأخير و ما تَلاه من ردود مختلفة على المستوى الدّوليّ و ما تَبعه من تدخّل أوروبيّ صريح أو قبيح في الشّأن التّركي- أكّدت هذه الأحداث كلّها أنّ الخطاب السّياسيّ التّركي الرّسميّ خطاب جادّ و مسؤول يَعرف كيف يكون في مستوى الأحداث و الملمّات لا يُجامل و لا يُهادن في المواضيع الكبرى والقضايا المصيريّة التي تهدّد أَمنَ البَلد و استقراره و حاضره و مستَقبله و أنّ هذا الخطاب السّياسيّ الرّسميّ يَصنعه مسؤولون جادُّون وَعْيهم بمسؤوليّتهم كبير و شعورهم أكبر بهذه المسؤوليّة تِجاه الشّعب و الوَطن.
و يَكفي متابعة ردّ المسؤولين الأتراك على التّدخل الأوروبّي في شؤونهم الدّاخليّة و ردّهم المفْحِم على الأمريكيّين في شأن السّيد فتح الله غولن و شأن الانقلاب و ما نشأ عنه من قضايا و متابعات و تراجع الموقف الأمريكيّ و اعتراف البيت الأبيض،ضِمْنيًّا، بسيادة الأتراك فوق أرضهم و تفهّمه لملاحقة الانقلابيّين و محاكمتهم...يَكفي الوقوف عند هذه المظاهر ليَستبين حرصُ المسؤلين الأتراك على التّأكيد على سيادتهم الكاملة في شؤونهم الدّاخليّة و استقلال قرارهم السّياسيّ.و في السّياق نفسه يتجلَّى الفَرق الكبير بين الخطاب السّياسيّ التّركي الرّسميّ ذي السّيادة الظّاهرة و المسؤوليّة و الاستقلال و الخطاب السّياسيّ العربيّ الرّسميّ المتهافت الذّليل الكَسير الذي ليس له لَون أو رِيح و ليس له أرض أو وَطن أو عنوان يتقلَّب في التّبعيّة يَستعذبها و يتمرّغ في الذِّلة يَستَمرئها ساترًا عُيوبه و مَثالبَه بالعبارات الضّخمة و الألقاب الفخمة و الدَّجل و الخَبَل و التّزويق و التّزوير.
و قد يُقال في شرح هذه الظّاهرة بأنّ الأتراك حكموا العالم قرونًا فهم أحفاد السّلاطين و الأحفاد،كالآباء و الأجْداد، لهم صَولة و عِزّة و لهم إبَاء و كبرياء.و قد يكون هذا الأمر صحيحًا بنِسبة أو بنِسبٍ ما و لكنّه لا يُفسِّر وَحده حضور هذه الظّاهرة في الخطاب السّياسيّ الرّسميّ عند الأتراك و غيابها في الخطاب السّياسيّ العربيّ الرّسميّ.و دليل ذلك أنّ العرب،هم أيضًا، قد حَكموا العالم قرونًا طويلة و ملأوا الدّنيا عَدلاً و مساواة و ثقافة و علومًا و حركة و عمرانًا...و هَا هُمْ،اليومَ، في ذَيل القاقلة لا سيادةَ لهم و لا استقلال لا يَملكون أَمر يَومهم و لا يَستطيعون أُمور غَدِهم سياستُهم ليست بأَيديهم و قرارُهم في يَد عَدوّهم بُلدانُهم مُحتلَّة و ثرواتهم مَنهُوبة و أراضيهم مَسلوبة لا يُؤْبَه لهم إذا غابوا و لا يُستأذَنون إذا حضروا...
الجانب التّاريخيّ،إذَنْ، و أمجاد الماضي و قِيَم الانتماء كلّ أولئك لا يَصلح وَحدَه تفسيرًا لحضور هذه الظّاهرة في الخطاب السّياسيّ عند المسؤولين الأتراك و يَنبغي البحث عن القيم الحقيقيّة التي تظاهرت على صَناعة هذا الخطاب الذي يَنضح سيادةً و قوّة و حرّية و استقلالاً علَّنا نستفيد منه أو يَفتح لنا أبوابًا من الفهم و ألوانًا من المعرفة و الوَعي.        

الاثنين، 18 يوليو 2016

تركيا أكبر من الانقلاب


المنتصر الأكبر،في تركيا، هو الشّعب التّركي الذي حَمَى اختياره و فرض إرادته و دافع عن حرّيته حين دَحَر الانقلابيِّين و أفشل مؤامرة العَسكر.و إنّ الأمر اللاّفت للانتباه،في المشهد التّركي، أنّ الشّعب حين تصدّى للانقلابيّين و واجه دبّاباتهم لم يَكُن يَحمل صُور أردوغان أو يَهتف باسمه و إنّما كان يرفع العَلَم الوطنيّ.و في هذا السّلوك إشارة منه إلى أنّ الوفاء للوَطن هو الأصل و أنّ الهَبَّة لإنقاذه هي الفَصل و أنّ الوفاء للوَطن يَعلُو على كلّ وفاء و لا يُضاهيه أيُّ وفاء.و هذا السّلوك النّوعيّ،في المشهد التّركي، يتناقض تناقضًا كبيرًا مع ما هو سائد في بلاد العَرب المنكوبة حين يكون الحاكم هو الوَطن أو حين يَذوب الوطن في شخص الوَثَن فيصبح واجبًا،حينئذٍ، بَل يكون دينًا و عبادةً،آنئذٍ، أنْ تسبِّح الشّعوب بحَمد الحاكم أوَّلاً ثمّ تُثني عليه ثانيًا ثمّ تقدِّس له ثالثًا دُون أنْ تُهمل ذكر ألقابه الفَضْفاضة و أيَاديه البَيضاء و نعَمه التي لا تُحصَى و نظرتِه الثّاقبة و رَأيه الذي لا رأيَ سواه و فَهمه الذي لا أحَد يَنْعاه و فطنتِه و كِياسته و فائق عنايته و عَطفه و شديد حبِّه و كبير حرصه...و بَعد تقديم هذه الطّقوس الواجبة و القَرابين اللاّزمة يَجيء ذكرُ الوطن باهتًا في الصّنم أو ذائبًا في شخص الوَثَن فتَخْتفي المسافة بينهما و الأَمارات.هذا هو الفَرق الكُبَّار بين واقع الشّعوب العربيّة التي تَصنع آلهتها بأَيْديها و بين شعوب الأرض الأخرى التي تربَّت على الحرّية و المسؤوليّة فنضِجت و اكتملت إنسانيّتها فهي تَعي واجبها جيِّدًا فتُنجِزه و تَعرف طريقها بيِّنًا فتَسلكه مُتَمتِّعةً،في الحالَين، بكامل الإرادة و الوَعي و الاختيار.

الخميس، 11 يونيو 2015

تركيا أكبر من أردوغان...


ما يُستفاد من الانتخابات النّيابية الأخيرة،في تركيا، كثير.و لكن يمكن،في هذه المقام المتواضع، تسجيل بعض الملاحظات العَجلى ذات العلاقة بالموضوع و حصرها في النقاط التّالية.                                          أوّلاً- أنّ الإسلاميّين،حينما تكون قواعد العمل السّياسي واضحة و شفّافة، يمكن هزيمتهم و سحب الثّقة منهم في أيّ موعد انتخابيّ دون اللّجوء إلى الانقلابات كالتي يَشقَى بها الوطن العربيّ و تدخّل العسكر و دون اللّجوء إلى ممارسة الغشّ و شراء الذّمم و الأصوات أو إقامة نظام الحصص الجائر الذي يجعل السّلطة في أيدي أقلّية دمويّة تواطأت إرادتها على إهانة الشّعوب و مصادرة مبادراتها و تكميم أفواهها و تظافرت جهودها للانفراد بالسّلطة و تفنّنت في فنّ السّرقة و العَبث بالمال العامّ و الفوز بالغنائم كلّها و الظَّفر بكلّ الامتيازات.                                                                                                 ثانيًا- أنّ عدم حصول الحزب الحاكم على الأغلبيّة المطلقة التي تؤهّله للحكم يعود إلى مجموعة أسباب داخلية كفوز حزب الشّعوب الدّيمقراطي،ذي التّوجه الكرديّ، لأوّل مرّة و دخوله البرلمان بحصوله على 80 مقعدًا.و يبدو أنّ الأكراد،أو بعضًا منهم، الذين كانوا يصوّتون للعدالة و التّنمية من قبلُ رأوا أنْ يُعطوا أصواتهم،هذه المرّة، لحزب الشّعوب الدّيمقراطي الحديث النّشأة الذي يَحظى بمباركة عبد الله أوجلان،زعيم حزب العمّال الكردستاني،و تزكيته. فإذا أضفنا إلى هذا التّحليل رأيًا آخر خلاصته أنّ المسألة السّورية و أحداث كوباني الكرديّة التي ضخّمها الغرب لحاجة في نفس يعقوب-إذا أضفنا هذا الأمر إلى ذاك و سلّمنا بأنّ كليهما كانا حاضرَين في هذه الانتخابات و هما اللّذان صَنعا نتائجها بشكل من الأشكال...فإنّه يمكن القول،حينئذٍ، أنّ نتائج هذه الانتخابات،بهذا التّحليل، ليست بنكسة كُبرى ما دام حزب العدالة و التّنمية قد فاز بالأغلبيّة النّسبية في البرلمان و لا يزال يحتفظ بثقة مُريحة لدى عموم الشّعب التّركي الذي زكّاه فمنحه 258 مقعدًا في البرلمان من مجموع 550.و في هذا السّياق،دائمًا، يَغيب عن بعض الأذهان أنّ انتعاش الأحزاب الكرديّة كحزب الشّعوب الدّيمقراطي و حزب السّلام و الدّيمقراطيّة إنّما مردّه إلى الأجواء الدّيمقراطية الجديدة التي أنشأها حزب العدالة و التّنمية و شفافيّة العمليّة السّياسية التي تحقّقت،في عهده، بعد إبعاد العسكر عن الفضاء السّياسي و سَعيه الحثيث لإخراج البلاد من التّوتر و الصّراع و نزوعه الظّاهر لحلّ المسألة الكرديّة بلقائه و بتواصله و حواره مع الشّخصيّات و الأحزاب الكرديّة ذات الفاعليّة و التّأثير...فكلّ أولئك،إذنْ، هو الذي شجّع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردستاني، في فبراير 2015، على الإعلان عن موقفه التّاريخي بالتّخلّي عن العمل المسلّح و تبنّي النّهج السّياسيّ في ممارسة الاحتجاج و المطالبة بالتّغيير.            ثالثًا- إرادة التّغيير قد تكون،هي أيضًا، عاملاً أثّر على نتائج هذه الانتخابات لأنّ التّغيير و التّجديد،اللَّذَين هَجرا المنطقة العربيّة منذ زمن بعيد، من طبيعة المجتمعات الحيّة التي تتصارع فيها سلميًّا الرُّؤَى و المواقف و الأفكار و هما،من قبلُ و من بعدُ، قيمتان أساسيّتان في بِنية الكَون و العالم.                             رابعًا- أمّا الذين يفسّرون عدم حصول العدالة و التّنمية على الغالبيّة المطلقة بنزوع طيّب أردوغان إلى الاستبداد و مظاهر الديكتاتوريّة البادية في مواقفه و آرائه...أمّا هؤلاء فليسوا سوى مردِّدين لنغمة غربيّة سابقة على أَوان هذه الانتخابات النّيابيّة و ما انفكّت متواصلة و هم يَستعذبونها كما يَستعذب الخامل ما يُقدَّم له من رأي أو تفسير.و يَدحض رأيَ هؤلاء أنّ أردوغان منذ تولِّيه مسؤوليّة البلاد لم يَسلم من الانتقاد و التّهديد و مظاهر الإساءة و الاستهزاء.فكيف يكون ديكتاتورًا و هو يتعرّض للإساءة و الإهانات ؟ إنّ الفائز الأكبر في الانتخابات النّيابيّة الأخيرة في تركيا هي تركيا نفسها التي طلّقت الحكم العسكريّ طلاقًا غيرَ رجعيّ و ولَّت وجهها شَطر الممارسة السّياسيّة النّزيهة القائمة على التّعدّدية و احترام اختيارات الشّعب و التّداول السّلمي على السّلطة.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/