الخميس، 21 يوليو 2016

الخطاب السّياسيّ الرّسميّ في تركيا



الخطاب السّياسيّ الرّسميّ،في أيِّ دولة، يدلّ على طبيعة هذه الدّولة و يعبّر عن ماهيِّتها و موقفها من الأحداث و المستجدّات و يَكشف عن ضعفها أو قوّتها و هو يدلّ،في الوقت نفسه، على مَدى تمتّع الدّولة، أيِّ دولة، بسيادتها الكاملة و استقلال قرارها السّياسيّ.و إنّ المتابع للشّأن التّركي منذ عَقد أو يزيد و المتأمّل في الخطاب السّياسيّ الرّسميّ طُول هذه الفترة يَلمس حرص السّاسة الأترك على الإعلان عن سيادتهم و استقلال قرارهم السّياسيّ.
و قد أكّدت أحداث الانقلاب الفاشل الأخير و ما تَلاه من ردود مختلفة على المستوى الدّوليّ و ما تَبعه من تدخّل أوروبيّ صريح أو قبيح في الشّأن التّركي- أكّدت هذه الأحداث كلّها أنّ الخطاب السّياسيّ التّركي الرّسميّ خطاب جادّ و مسؤول يَعرف كيف يكون في مستوى الأحداث و الملمّات لا يُجامل و لا يُهادن في المواضيع الكبرى والقضايا المصيريّة التي تهدّد أَمنَ البَلد و استقراره و حاضره و مستَقبله و أنّ هذا الخطاب السّياسيّ الرّسميّ يَصنعه مسؤولون جادُّون وَعْيهم بمسؤوليّتهم كبير و شعورهم أكبر بهذه المسؤوليّة تِجاه الشّعب و الوَطن.
و يَكفي متابعة ردّ المسؤولين الأتراك على التّدخل الأوروبّي في شؤونهم الدّاخليّة و ردّهم المفْحِم على الأمريكيّين في شأن السّيد فتح الله غولن و شأن الانقلاب و ما نشأ عنه من قضايا و متابعات و تراجع الموقف الأمريكيّ و اعتراف البيت الأبيض،ضِمْنيًّا، بسيادة الأتراك فوق أرضهم و تفهّمه لملاحقة الانقلابيّين و محاكمتهم...يَكفي الوقوف عند هذه المظاهر ليَستبين حرصُ المسؤلين الأتراك على التّأكيد على سيادتهم الكاملة في شؤونهم الدّاخليّة و استقلال قرارهم السّياسيّ.و في السّياق نفسه يتجلَّى الفَرق الكبير بين الخطاب السّياسيّ التّركي الرّسميّ ذي السّيادة الظّاهرة و المسؤوليّة و الاستقلال و الخطاب السّياسيّ العربيّ الرّسميّ المتهافت الذّليل الكَسير الذي ليس له لَون أو رِيح و ليس له أرض أو وَطن أو عنوان يتقلَّب في التّبعيّة يَستعذبها و يتمرّغ في الذِّلة يَستَمرئها ساترًا عُيوبه و مَثالبَه بالعبارات الضّخمة و الألقاب الفخمة و الدَّجل و الخَبَل و التّزويق و التّزوير.
و قد يُقال في شرح هذه الظّاهرة بأنّ الأتراك حكموا العالم قرونًا فهم أحفاد السّلاطين و الأحفاد،كالآباء و الأجْداد، لهم صَولة و عِزّة و لهم إبَاء و كبرياء.و قد يكون هذا الأمر صحيحًا بنِسبة أو بنِسبٍ ما و لكنّه لا يُفسِّر وَحده حضور هذه الظّاهرة في الخطاب السّياسيّ الرّسميّ عند الأتراك و غيابها في الخطاب السّياسيّ العربيّ الرّسميّ.و دليل ذلك أنّ العرب،هم أيضًا، قد حَكموا العالم قرونًا طويلة و ملأوا الدّنيا عَدلاً و مساواة و ثقافة و علومًا و حركة و عمرانًا...و هَا هُمْ،اليومَ، في ذَيل القاقلة لا سيادةَ لهم و لا استقلال لا يَملكون أَمر يَومهم و لا يَستطيعون أُمور غَدِهم سياستُهم ليست بأَيديهم و قرارُهم في يَد عَدوّهم بُلدانُهم مُحتلَّة و ثرواتهم مَنهُوبة و أراضيهم مَسلوبة لا يُؤْبَه لهم إذا غابوا و لا يُستأذَنون إذا حضروا...
الجانب التّاريخيّ،إذَنْ، و أمجاد الماضي و قِيَم الانتماء كلّ أولئك لا يَصلح وَحدَه تفسيرًا لحضور هذه الظّاهرة في الخطاب السّياسيّ عند المسؤولين الأتراك و يَنبغي البحث عن القيم الحقيقيّة التي تظاهرت على صَناعة هذا الخطاب الذي يَنضح سيادةً و قوّة و حرّية و استقلالاً علَّنا نستفيد منه أو يَفتح لنا أبوابًا من الفهم و ألوانًا من المعرفة و الوَعي.        

الاثنين، 18 يوليو 2016

تركيا أكبر من الانقلاب


المنتصر الأكبر،في تركيا، هو الشّعب التّركي الذي حَمَى اختياره و فرض إرادته و دافع عن حرّيته حين دَحَر الانقلابيِّين و أفشل مؤامرة العَسكر.و إنّ الأمر اللاّفت للانتباه،في المشهد التّركي، أنّ الشّعب حين تصدّى للانقلابيّين و واجه دبّاباتهم لم يَكُن يَحمل صُور أردوغان أو يَهتف باسمه و إنّما كان يرفع العَلَم الوطنيّ.و في هذا السّلوك إشارة منه إلى أنّ الوفاء للوَطن هو الأصل و أنّ الهَبَّة لإنقاذه هي الفَصل و أنّ الوفاء للوَطن يَعلُو على كلّ وفاء و لا يُضاهيه أيُّ وفاء.و هذا السّلوك النّوعيّ،في المشهد التّركي، يتناقض تناقضًا كبيرًا مع ما هو سائد في بلاد العَرب المنكوبة حين يكون الحاكم هو الوَطن أو حين يَذوب الوطن في شخص الوَثَن فيصبح واجبًا،حينئذٍ، بَل يكون دينًا و عبادةً،آنئذٍ، أنْ تسبِّح الشّعوب بحَمد الحاكم أوَّلاً ثمّ تُثني عليه ثانيًا ثمّ تقدِّس له ثالثًا دُون أنْ تُهمل ذكر ألقابه الفَضْفاضة و أيَاديه البَيضاء و نعَمه التي لا تُحصَى و نظرتِه الثّاقبة و رَأيه الذي لا رأيَ سواه و فَهمه الذي لا أحَد يَنْعاه و فطنتِه و كِياسته و فائق عنايته و عَطفه و شديد حبِّه و كبير حرصه...و بَعد تقديم هذه الطّقوس الواجبة و القَرابين اللاّزمة يَجيء ذكرُ الوطن باهتًا في الصّنم أو ذائبًا في شخص الوَثَن فتَخْتفي المسافة بينهما و الأَمارات.هذا هو الفَرق الكُبَّار بين واقع الشّعوب العربيّة التي تَصنع آلهتها بأَيْديها و بين شعوب الأرض الأخرى التي تربَّت على الحرّية و المسؤوليّة فنضِجت و اكتملت إنسانيّتها فهي تَعي واجبها جيِّدًا فتُنجِزه و تَعرف طريقها بيِّنًا فتَسلكه مُتَمتِّعةً،في الحالَين، بكامل الإرادة و الوَعي و الاختيار.

الخميس، 11 يونيو 2015

تركيا أكبر من أردوغان...


ما يُستفاد من الانتخابات النّيابية الأخيرة،في تركيا، كثير.و لكن يمكن،في هذه المقام المتواضع، تسجيل بعض الملاحظات العَجلى ذات العلاقة بالموضوع و حصرها في النقاط التّالية.                                          أوّلاً- أنّ الإسلاميّين،حينما تكون قواعد العمل السّياسي واضحة و شفّافة، يمكن هزيمتهم و سحب الثّقة منهم في أيّ موعد انتخابيّ دون اللّجوء إلى الانقلابات كالتي يَشقَى بها الوطن العربيّ و تدخّل العسكر و دون اللّجوء إلى ممارسة الغشّ و شراء الذّمم و الأصوات أو إقامة نظام الحصص الجائر الذي يجعل السّلطة في أيدي أقلّية دمويّة تواطأت إرادتها على إهانة الشّعوب و مصادرة مبادراتها و تكميم أفواهها و تظافرت جهودها للانفراد بالسّلطة و تفنّنت في فنّ السّرقة و العَبث بالمال العامّ و الفوز بالغنائم كلّها و الظَّفر بكلّ الامتيازات.                                                                                                 ثانيًا- أنّ عدم حصول الحزب الحاكم على الأغلبيّة المطلقة التي تؤهّله للحكم يعود إلى مجموعة أسباب داخلية كفوز حزب الشّعوب الدّيمقراطي،ذي التّوجه الكرديّ، لأوّل مرّة و دخوله البرلمان بحصوله على 80 مقعدًا.و يبدو أنّ الأكراد،أو بعضًا منهم، الذين كانوا يصوّتون للعدالة و التّنمية من قبلُ رأوا أنْ يُعطوا أصواتهم،هذه المرّة، لحزب الشّعوب الدّيمقراطي الحديث النّشأة الذي يَحظى بمباركة عبد الله أوجلان،زعيم حزب العمّال الكردستاني،و تزكيته. فإذا أضفنا إلى هذا التّحليل رأيًا آخر خلاصته أنّ المسألة السّورية و أحداث كوباني الكرديّة التي ضخّمها الغرب لحاجة في نفس يعقوب-إذا أضفنا هذا الأمر إلى ذاك و سلّمنا بأنّ كليهما كانا حاضرَين في هذه الانتخابات و هما اللّذان صَنعا نتائجها بشكل من الأشكال...فإنّه يمكن القول،حينئذٍ، أنّ نتائج هذه الانتخابات،بهذا التّحليل، ليست بنكسة كُبرى ما دام حزب العدالة و التّنمية قد فاز بالأغلبيّة النّسبية في البرلمان و لا يزال يحتفظ بثقة مُريحة لدى عموم الشّعب التّركي الذي زكّاه فمنحه 258 مقعدًا في البرلمان من مجموع 550.و في هذا السّياق،دائمًا، يَغيب عن بعض الأذهان أنّ انتعاش الأحزاب الكرديّة كحزب الشّعوب الدّيمقراطي و حزب السّلام و الدّيمقراطيّة إنّما مردّه إلى الأجواء الدّيمقراطية الجديدة التي أنشأها حزب العدالة و التّنمية و شفافيّة العمليّة السّياسية التي تحقّقت،في عهده، بعد إبعاد العسكر عن الفضاء السّياسي و سَعيه الحثيث لإخراج البلاد من التّوتر و الصّراع و نزوعه الظّاهر لحلّ المسألة الكرديّة بلقائه و بتواصله و حواره مع الشّخصيّات و الأحزاب الكرديّة ذات الفاعليّة و التّأثير...فكلّ أولئك،إذنْ، هو الذي شجّع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردستاني، في فبراير 2015، على الإعلان عن موقفه التّاريخي بالتّخلّي عن العمل المسلّح و تبنّي النّهج السّياسيّ في ممارسة الاحتجاج و المطالبة بالتّغيير.            ثالثًا- إرادة التّغيير قد تكون،هي أيضًا، عاملاً أثّر على نتائج هذه الانتخابات لأنّ التّغيير و التّجديد،اللَّذَين هَجرا المنطقة العربيّة منذ زمن بعيد، من طبيعة المجتمعات الحيّة التي تتصارع فيها سلميًّا الرُّؤَى و المواقف و الأفكار و هما،من قبلُ و من بعدُ، قيمتان أساسيّتان في بِنية الكَون و العالم.                             رابعًا- أمّا الذين يفسّرون عدم حصول العدالة و التّنمية على الغالبيّة المطلقة بنزوع طيّب أردوغان إلى الاستبداد و مظاهر الديكتاتوريّة البادية في مواقفه و آرائه...أمّا هؤلاء فليسوا سوى مردِّدين لنغمة غربيّة سابقة على أَوان هذه الانتخابات النّيابيّة و ما انفكّت متواصلة و هم يَستعذبونها كما يَستعذب الخامل ما يُقدَّم له من رأي أو تفسير.و يَدحض رأيَ هؤلاء أنّ أردوغان منذ تولِّيه مسؤوليّة البلاد لم يَسلم من الانتقاد و التّهديد و مظاهر الإساءة و الاستهزاء.فكيف يكون ديكتاتورًا و هو يتعرّض للإساءة و الإهانات ؟ إنّ الفائز الأكبر في الانتخابات النّيابيّة الأخيرة في تركيا هي تركيا نفسها التي طلّقت الحكم العسكريّ طلاقًا غيرَ رجعيّ و ولَّت وجهها شَطر الممارسة السّياسيّة النّزيهة القائمة على التّعدّدية و احترام اختيارات الشّعب و التّداول السّلمي على السّلطة.

الأحد، 7 ديسمبر 2014

في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

يحتفل العالم،هذه الأسبوع، بالذكرى السادسة و الستّين لصدور الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يصادف يوم 10 ديسمبر من كل عام.و لقد كان جديرًا بهذا العالم الممزّق و بشعوب الأرض المضطهدة أنْ تحتفل بجنازة هذا الإعلان العالميّ الذي وضعه الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإحكام سيطرتهم على الصّغار و الضّعفاء في كل مكان.
 و الملاحظ أنّ هذا الإعلان العالميّ لم يَعد ذا جاذبيّة و بريق بل قد فَقَد،لدَى شعوب الأرض، كثيرًا من ماهيّته و معناه.و سبب هذا التّحول و العزوف أنّ هذا الإعلان قد شُوّه محيّاه و أُفرغ من مضمونه و محتواه حين أصبح شعارًا يرفعه القتلة و المجرمون لتبرير ما يسفكون من دماء و ما يهدمون من بناء و ما يخلّفون وراءهم من دموع و أحزان و دمار و أشلاء.

و إذا ذهبنا،اليوم، نبحث عن مِصداق لهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد أكثر من ستّين سنة من صدوره و نتحقّق من فاعليّته و جدواه و نتأكّد من رصيده في حياة الناس و مغزاه فماذا نحن واجدون ؟ لا شيء.أو فلنقل إنّا واجدون كلّ شيء مؤلم محزن و مدمّر و مميت.
لقد ارتكبت الدول الخمس الكبرى التي تتمتّع بحقّ الفيتو في مجلس الأمن و دول أخرى تسير في ركبها أو تضاهيها- لقد ارتكب هؤلاء جميعًا باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و تحقيق بنوده جرائم كبرى لا تزال آثارها قائمة في حياة الناس و في الأجيال المتعاقبة و في البيئة و في كلّ مكان.
إنّ الذي تَطويه وسائل الإعلام العالمية و الكتب المشبوهة و الدّراسات المتحيّزة أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد وُلد،بضعة أشهر، بعد اعتداء صارخ و جريمة كبرى كان ضحيّتها الفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم و شُرّدوا في العالم و أقامت العصابات الصّهيونية،بمساندة الدول الكبرى و تواطئها، دولة فوق أرضهم في مايو/أيار سنة 1948.و كأنّ ميلاد الإعلان العالميّ جاء تزكيةً لجريمة القرن الكبرى و تبريرًا لهذا الاعتداء البَواح أو كأنّ هذه الدول الكبرى قد أعلنت بهذا التّواطؤ عن هويّة هذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و كشفت عن برنامجه و عن مبتغاه.
و قد شهدت الأرض،منذ صدور هذا الإعلان مظالم كبيرة و جرائم كبرى لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلاً.و اتخذت بنود هذا الإعلان العالميّ ستارًا لتغطية جرائم الحضارة الغربية بشقّيها الأمريكي و الأروبي.

و بعد هذه الفترة الطويلة من عمر هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا تزال بنوده،رغم دلالاتها الواضحة و القطعيّة، تُفسّر تفسيرات عديدة متحيِّزة و تُشرح شروحًا مختلفة تبعًا لأهواء الدول الكبرى و مصالحها المختلفة و أهدافها الاستعمارية و هي لا تتورّع،أبدًا، عن سفك الدّماء و إقامة المجازر و لا تتردّد عن عمليّات الهدم و التّدمير و استعمال الأسلحة المحرّمة كما حصل في فلسطين و العراق و أفغانستان و غيرها تحقيقًا لهذه المصالح و مساوقةً لهذه الأهداف.
    
فما الذي يبقى من رصيد للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد طرد الفلسطينيّين من أرضهم و تشتيتهم في العالم و سَلبهم حقّهم في العيش أحرارًا في وطنهم ثم تمكين اليهود الصّهاينة فوق أرض فلسطين التي ليست أرضهم و تسليحهم و حمايتهم ؟
و ما الذي يبقى من جاذبيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يسلب الحياة و يزرع الموت و يقضي على الفرحة و النّماء بألوان من الحرب و الحصار كما حصل في العراق و يحصل في غزّة و في فلسطين.
و ما الذي يبقى من مِصداق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يتلذّذ باستغلال عذابات الناس في الصّومال كما يستغلّ ظاهرة الجوع و الحرب في كلّ مكان لفرض شروطه و بسط نفوذه و إحكام سيطرته على البلاد و العباد.
و ما الذي يبقى من بَريق للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقتحم على السّكان الأصليّين ديارهم و يسلبهم أسباب الرزق و يحرمهم وسائل الرّاحة و الأمان كما يحدث مع الهنود الحمر و مع القبائل البدائية في إفريقيا و في القارّة الأمريكية الواسعة و في غيرهما.
و ما الذي يبقى من شرعيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يمارس الازدواجيّة و الانتقاء فلا يرفع صوته و لا يحزم أمره حين تُراق دماء العرب و المسلمين في إفريقيا و آسيا و دماء الضّعفاء قاطبةً،في العالم، و المنبوذين الذين تمارس ضدّهم كلّ أشكال العنف و الإرهاب و يَنطق و يصرخ و يَعد و يتوعّد و يُرسل الجيوش و الأحلاف حين تهان الأقليّات المسيحية أو الأقليّات الأخرى التي تخدم مصالح الغرب و تحقّق أطماعه بأيِّ شكل من الأشكال.
و ما الذي يَبقى من صلاحيّة للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي لم يتّخذ خطوة جادّة للقضاء على ظاهرة السّياحة الجنسية،التي يتفنّن فيه الغربيّون، و الاعتداءات الجنسية الممارسة ضدّ الأطفال و العنف الذي يُصيبهم و المتاجرة بهم و تشريدهم و استغلالهم في الأعمال الشّاقة التي ليست في مُكنتهم أو إقحامهم في الحروب و النّزاعات.
و بعد هذا السّجل الأسود في تاريخ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يأتي المنهزمون في الوطن العربي و أشباه المثقّفين و الببّغاوات للمطالبة بتحكيم بُنود هذا الإعلان العالميّ في حياتنا كأنّه وَحي يُوحى و تدريسه لأبنائنا و شرحه و فهمه بالطريقة الأمريكية و الأروبية لا غير.
إنّ الجرائم التي ارتكبها الغرب باسم الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و باسم قيم الحرية و العدالة لا تُعدّ و لا تحصى.فأمريكا لا تَخفى جرائمُها الحربيّة في الفيتنام و أفغانستان و في باكستان و الصّومال و في اليمن و العراق و قبل ذلك في هيروشيما و ناغزاكي في اليابان...و هذه الجرائم قد أتَت على الأخضر و اليابس     و لا يزال النّاس،إلى اليوم، يُعانون آثار هذه الجرائم و عقابيلها و دمارها.
أمّا فرنسا فجرائمها في الجزائر تحتلّ الصّدارة في تاريخها الاستعماري الأسود.و لا تزال فرنسا إلى اليوم دولة استعمارية حاقدة تزرع الموت و تصنع الدّمار و تذبح الشّعوب و تزهق الأرواح و تمارس الإرهاب الدّولي باسم حقوق الإنسان و قيم الحرية و العدالة و المساواة تحقيقًا للسيطرة و التّملك و الإذلال.
و آخر فصول جرائمها يجري،هذه الأيام، في مالي و في إفريقيا الوسطى حين تدخّلت لتجريد المسلمين المطارَدين من أسلحتهم و وقفت تتلذّذ بمشاهد الحرق و التّنكيل و القتل و الذّبح بالسّكاكين و السّواطير و الاعتداء على البيوت و الممتلكات و التّهجير القَسريّ المنظّم الذي تمارسه عصابات القتل المسيحيّة.
و قد بلغ القبح و الافتراء بفرنسا،بلد الحريات و حقوق الإنسان، حدًّا لا يُطاق فلم تتورّع عن إصدار قانون 23 فيفري/شباط سنة 2005 الذي يمجّد الاستعمار و يُشيد بمنافعه و بمزاياه على الشعوب والبلدان التي خضعت له !

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ببنوده الثّلاثين التي احتواها كان ممكنًا أنْ يحقّق بعض العدالة و الحرية و بعض الكرامة و المساواة و يقضي على بؤر التّوتر في العالم و يخفّف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الضّعفاء و المحرومين فوق هذه الأرض.
و لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق لأنّ الكبار المنتصرين،بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و سطّروا بنوده لا يريدون لمبادئ الحرية و العدالة و الحقّ و المساواة و الكرامة الإنسانية أنْ تنتعش في هذا العالم  أو أنْ تسود.و كيف يفعلون ذلك و هم أوّل من يغتصب هذه المبادئ الإنسانية الخالدة و أوّل من يدوسها و يُهينها و أوّل من يقتلها و يُفنيها ؟

و الذي يُقضَى منه العجب أنّ مبادئ حقوق الإنسان و مجموع القيم الإنسانية الخالدة لا يُسمح بانتعاشها وسريانها،وفقًا لرؤية الدول الكبرى المتسلّطة، إلاّ داخل المنظومة الغربية و داخل حدودها الجغرافية.أمّا شعوب الأرض الأخرى التي لا صلة لها بالحضارة الغربية فهي ليست مقصودة بهذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و موادِّه و بنودُه ليست تعنيها لأنها شعوب همجيّة و متخلّفة و ينبغي التّعامل معها بكلّ أشكال العنف و القهر و الإرهاب و الاستئصال.
و إنّ هذا السلوك الغربي ليس جديدًا أو مبتدعًا لأنه يُعيد إلى أذهاننا سلوكًا همجيًّا قديمًا و هو سلوك     الرّومان،في حملاتهم المختلفة خارج روما، الذين كان يجنّ جُنونهم،كما يقول المؤرّخون، فيحرقون و يدمّرون   و يقتلون كلّ الشعوب و الأقوام الذين لا يفهمون لغتهم أو ثقافتهم.
       
إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد أصبح لعبةً في أيدي الدول الكبرى المسيطرة على ثروات شعوب العالم الثالث بل أصبح وسيلة فعّالة للقهر و الظّلم و الإبادة و الاستئصال.و كلّ أحداث القرن العشرين مضافًا إليها الجرائم الكبرى التي افتُتح بها هذا القرن الجديد و الحروب المتعاقبة و مؤامرات الانفصال و التّقسيم كلّ أولئك يزكّي هذا القول و يَعضده.
إنّ المتأمّل في الأحداث المعاصرة لا يفوته ملاحظة أنّ الحديث عن حقوق الإنسان يصاحبه،دائمًا، الرّغبة الأمريكية و الأروبية في استعمار الدول و إذلال شعوبها و كثيرًا ما تتّخذ مبادئ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وسيلةً لغزو مجتمعات العالم الثالث و تفكيكها أو تغيير نمط الحياة فيها و أساليب التفكير.
و حتى يظهر التّلاعب جليًّا و تكتمل الصورة القاتمة و المعاني المشوَّهة التي آل إليها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يتعيّن الاستشهاد،في هذا المقام، بكلمة أحد سفّاحي العصر،و هو جورج بوش الابن، قالها في مؤتمر حوار الأديان و الحضارات المنعقد في مقرّ الأمم المتحدة،في نيويورك، في الأسبوع الثاني من نوفمبر سنة 2008 حضرته 60 دولة.فقد قال هذا الرجل وقاحةً بأنّ حروبه التي خاضها في العراق و أفغانستان و كوسوفو كان دافعها هو حماية الحقوق الدينية !

إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يكاد يكون صيغة من المكر و الخداع وضعها الكبار المنتصرون،بعد الحرب العالمية الثانية، لإذلال الشعوب الضّعيفة و إحكام السّيطرة عليها بالضغوط المختلفة و الإملاءات و استعمال القوة و الإرهاب.
هذا هو حال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بعد ستّ و ستّين سنة من صدوره و هذا هو التّلاعب الذي لحقه و ذلك هو القتل و الاستئصال الذي ارتُكب باسمه و الخراب و الدّمار الذي أُنجز تحت لوائه.
و في انتظار أنْ تتحقّق عودة الوعي لَدى الجموع و الآحاد و أنْ تنتفض شعوب الأرض المظلومة على هذا الواقع الأليم الذي تعاني نتائجه المدمّرة فتستعيد زمام المبادرة من أيدي هؤلاء المجرمين الكبار فإنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان سيظلّ مبرّرًا مناسبًا لكلّ عمليّات الإبادة و الاستئصال و وسيلة للقهر و الإذلال    و وثيقة فارغة من كلّ معنى ضرّها أكبر من نفعها.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/