قد
تحتاج المسألة اللّغوية،في أحايين كثيرة، إلى وِقفة متأنّية و تحليل هادئ بسبب ما
يَنشأ عن بحثها من عواطف و مواقف و انفعالات.و يمكن القول،ابتداءً، بأنّ اللّغة
ليست حياديّة دائمًا،أو هي ليست حيادية تمامًا، لأنها تحمل قِيَمًا و تسوق أفكارًا
و موازين.و إنه لَيصعُب،في أوقات عديدة، فصل اللّغة،و هي وسيلة للتّعامل و التّخاطب، عن» حَمولتها «
أو
عن » شُحْنتها « . و
الذي أعطى للّغة كلّ هذه الأهمّية و أحاطها بنوع من الهالة و التّقديس أنها لصيقة
بالذّات و بسيادتها و بوجودها في العالم. و لعلّه، لهذا السبب، قد ارتبطت ارتباطًا
شديدا بالسّياسة و المصالح الاقتصادية و استُعملت أداة فعّالة لبسط النّفوذ و التّوسع.
و
إنّ العصور الحديثة بما شَهدته من صراع على مناطق النّفوذ و الأسواق و بما واكبها
من صراعات على الهُويّة و إثبات الـذّات في وسط عالم لا يعترف إلاّ بمنطـق القـوّة
و السّيطرة و القهر و الاستعلاء و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار استسلامه و
طواعيّته و خضوعه...إنّ عصورًا هذا شأنها و عالَمًا هذا حاله قد أعطى اللّغة
بُعْدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها سلاحًا خطيرًا يوازي في آثاره أسلحة الفّتك و
الدّمار الأخرى. و لم تَعُـد اللّغـة هـذه الوسيلـة الحيـاديّـة التي تنظـّم
علاقات النـّاس و تقرّبهم و تحقّق التّعارف بينهم و التّبادلات بل أصبح لها شأن
آخر و أيُّ شأن !
كلّ
هذه الأوصاف - إذنْ - هي التي أعطت للّغة بعدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها موضع
عناية و اهتمام فائقَيْن. و لكنّ اللّغة إذا كانت بهذه القيمة و هذا الوزن فما
ينبغي أنْ يتحوّل النّشاط لها و الموقف تجاهها و العناية بها إلى نوع من الحساسيّة
المَرَضِيّة و التّطرف كاللذَين نلمسهما في مواقف الفرنكفونية التي تمارس سياسة الإقصاء
و التّهميش ضدّ اللّغات الأخرى لتحقيق السّيطرة المطلقة للّغة الفرنسية و ثقافتها خدمةً
لأهداف سياسيّة و اقتصاديّة.
إنّ
كلّ موقف من اللّغة و كلّ سياسة توضع لحمايتها و صيانتها ينبغي أنْ تَضع في
الحسبان أمرَين اثنين: أوّلهما أنّ اللّغة مسألة سـيادة و وجـود و إثبات للذّات و
أنّ العبث بها هـو عبث بهذه السّيادة و إلغاء لهذا الوجود و إفناء للذّات.و
ثانيهما أنّ العناية باللّغة الأمّ و صيانتها لا يَعني تهميش اللّغات الأخرى أو
ضرب الحصار حولها أو مطاردتها. و كلّ سلوك من هذا القَبيل هو من الحساسيّة الزّائدة
و التّطرف الأعمى،و هو قبلُ، مصادم لهذا التّنوع و الاختلاف اللّذَين يقوم عليهما
الكون و العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق