الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

اللغة في العصر الحديث


قد تحتاج المسألة اللّغوية،في أحايين كثيرة، إلى وِقفة متأنّية و تحليل هادئ بسبب ما يَنشأ عن بحثها من عواطف و مواقف و انفعالات.و يمكن القول،ابتداءً، بأنّ اللّغة ليست حياديّة دائمًا،أو هي ليست حيادية تمامًا، لأنها تحمل قِيَمًا و تسوق أفكارًا و موازين.و إنه لَيصعُب،في أوقات عديدة، فصل اللّغة،و هي وسيلة للتّعامل و التّخاطب، عن» حَمولتها « أو عن » شُحْنتها « . و الذي أعطى للّغة كلّ هذه الأهمّية و أحاطها بنوع من الهالة و التّقديس أنها لصيقة بالذّات و بسيادتها و بوجودها في العالم. و لعلّه، لهذا السبب، قد ارتبطت ارتباطًا شديدا بالسّياسة و المصالح الاقتصادية و استُعملت أداة فعّالة لبسط النّفوذ و التّوسع.
و إنّ العصور الحديثة بما شَهدته من صراع على مناطق النّفوذ و الأسواق و بما واكبها من صراعات على الهُويّة و إثبات الـذّات في وسط عالم لا يعترف إلاّ بمنطـق القـوّة و السّيطرة و القهر و الاستعلاء و لا قيمة فيه للضّعيف إلاّ بمقدار استسلامه و طواعيّته و خضوعه...إنّ عصورًا هذا شأنها و عالَمًا هذا حاله قد أعطى اللّغة بُعْدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها سلاحًا خطيرًا يوازي في آثاره أسلحة الفّتك و الدّمار الأخرى. و لم تَعُـد اللّغـة هـذه الوسيلـة الحيـاديّـة التي تنظـّم علاقات النـّاس و تقرّبهم و تحقّق التّعارف بينهم و التّبادلات بل أصبح لها شأن آخر و أيُّ شأن !
كلّ هذه الأوصاف - إذنْ - هي التي أعطت للّغة بعدًا استراتيجيًّا خاصًّا و جعلها موضع عناية و اهتمام فائقَيْن. و لكنّ اللّغة إذا كانت بهذه القيمة و هذا الوزن فما ينبغي أنْ يتحوّل النّشاط لها و الموقف تجاهها و العناية بها إلى نوع من الحساسيّة المَرَضِيّة و التّطرف كاللذَين نلمسهما في مواقف الفرنكفونية التي تمارس سياسة الإقصاء و التّهميش ضدّ اللّغات الأخرى لتحقيق السّيطرة المطلقة للّغة الفرنسية و ثقافتها خدمةً لأهداف سياسيّة و اقتصاديّة.
إنّ كلّ موقف من اللّغة و كلّ سياسة توضع لحمايتها و صيانتها ينبغي أنْ تَضع في الحسبان أمرَين اثنين: أوّلهما أنّ اللّغة مسألة سـيادة و وجـود و إثبات للذّات و أنّ العبث بها هـو عبث بهذه السّيادة و إلغاء لهذا الوجود و إفناء للذّات.و ثانيهما أنّ العناية باللّغة الأمّ و صيانتها لا يَعني تهميش اللّغات الأخرى أو ضرب الحصار حولها أو مطاردتها. و كلّ سلوك من هذا القَبيل هو من الحساسيّة الزّائدة و التّطرف الأعمى،و هو قبلُ، مصادم لهذا التّنوع و الاختلاف اللّذَين يقوم عليهما الكون و العالم.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/