إنّ الكتابة معاناة و إنّي لأكاد أجزم
أنّ المعاناة لا تظهر في شيء كما تظهر في عمليّة الكتابة.و لقد أساء إلى الكتابة
كثيرًا و شوّهَ مُحيَّاها طوائفُ من المثقّفين و المتعلّمين حين أفْرغوها من كلّ
معاناة فأصبحت،عندهم، عملاً هيِّنًا بسيطًا يمارسونها كما يمارسون بعض الوظائف
الحيويّة أو الهوايات.
و إنّه ليكفي متابعة ما يُسجَّل في أغلب
الصّحف و المجلاّت و ما يُسطَّر في بعض الكتب و الأسفار ليَستَيقن المرء أنّ
الكتابة،في هذه الأيّام، بَهَت لونُها و هان شأنُها و زال تأثيرها حين تصدَّى لها
أصناف من الناس يفتقرون إلى الوسائل و تُعوزهم الأدوات و لا يَحُوزون القدرة على
الوفاء بأكبر مقتضيات الكتابة ألا و هي المعاناة.و بسبب هذه الأصناف المزدحمة عند
باب الكتابة،زُورًا و ادِّعاءً، أو نتيجةً لجرأتهم استحالت الكتابة موتًا و مواتًا
بدلاً من أنْ تكون بعثًا و حياةً و نشورًا.
إنّ
الكتابة معاناة في الظاهر و الباطن: معاناة في الألفاظ و الكلمات و في الجمل و
العبارات و في الإطار و الأشكال.و معاناة في المعاني و المضامين و في اللَّطائف و
الأبعاد و الإيحاءات.و معاناة في النّظم و الترتيب و الجمع و التّنسيق.إنّ
المعاناة لحاضرة في كلّ مراحل الكتابة: في أوَّلها و في وسطها، في مبدئها و في
مُنتهاها.و هي كذلك حاضرة في مُنعطفاتها و منحنياتها و في زواياها و ثناياها و في
لُحمتها و سَداها.
و
إنّ هذه المعاناة لحاضرة،فضلاً عن ذلك كلّه ،في مجموع الظّروف النّفسية التي ترافق
عملية الكتابة و تتلبَّس بها و في حالات المزاج المختلفة التي تتخلّلها و في لحظات
التأمّل و الاستبطان التي تغشاها كما هي حاضرة في ذلك المزيج الحادّ من عواطف
اللّذة و الألم و السّأم و الملل و الشّك و اليقين و القُدرة و العجز و البَسط و
القَبض و التّدفق و النّضوب و الاندفاع و التّريث و الإقبال و الإدبار و السّمو و
الدّنو...بل إنّ حضورها ليمتدّ،أحيانًا، عند بعض الكاتبين الكبار و يتعاظم و
يستطيل فيُصاحبهم حينًا مَديدًا بعد فترة الكتابة و الإبداع و يَغْشاهم آناءً بعد
التّسطير و النّهاية و التّمام.
و
كلَّما كانت المعاناة كبيرة استنفدت طاقاتِ الكاتب و استهلكت عُصارتَه و اختلطت
بدمه و أعصابه و حينئذ،فقط،تفوز هذه
الكتابة بالخلود و تحظَى بالدّوام و الامتداد فتَسْكن القلوب و العقول قبل أنْ
تسكن الغَيب و المستقبل و حياة الأجيال.أما تلك الكتابة التي وُلدت باردة هامدة
جامدة لأنّها لم تُصْهَر في بَوتقة المعاناة فإنّ أحدًا من الناس لا يَأويها و لا
هي تجد من يحتضنها و يتبنّاها لأنها وُلدت ميّتةً و الناس لا يتبنَّوْن الأموات.