الأحد، 13 أبريل 2014

الانتخابات الرئاسية في الجزائر: إنتاج الفشل مرة أخرى











الانتخابات الرئاسيّة في الجزائر يوم 17 أفريل القادم،كما يراها مجموع المراقبين، ليست سوى مسرحيّة هزليّة أخرى من إخراج بوتفليقة الرّئيس المريض المترشّح لولاية رابعة و عصابة المغامرين المحيطين به الذين يقودون البلد إلى مزيد من الأزمة و الانسداد.و قد أُريد للجزائريّين،مُكرهين، أن يصفّقوا لهذه المسرحيّة الهزليّة رغم التّفاهة التي تعتريها و رغم الشّعوذة السّياسية التي تصاحب الحملة الانتخابية.

إن العمل السياسي الجاد،و من ضمنه مناسبة الانتخابات، يقتضي المشاركة و الظهور و يستدعي القرب و الحضور و يتطلب من الذين يمارسونه فهما صائبا لأوضاع الناس و نصيبا ظاهرا من التواضع لهم و قليلا من الاحترام لعقولهم و شيئا من التواطؤ معهم و مقاسمتهم بعض أفكارهم و التّجاوب مع عواطفهم مع إبداء بعض الأهمية و الاعتبار لمجموع الشعب و مختلف المواطنين.
و لكن بوتفليقة الرّئيس المريض و عصابة المغامرين من حوله الذين يصرون على احتقار الجزائريين و سب ذكائهم و تسفيه أفكارهم و مصادرة إرادتهم و التحكم في مصيرهم و تسطير مستقبلهم بل إنهم لَيدّعون،صراحة أو وقاحة، الاطلاع على نياتهم و معرفة دخائلهم و الإحاطة بهواجسهم و فهم ميولاتهم   و تحديد اختياراتهم...
هذه العصابة التي لا يجمعها مبدأ أو فكر و لا يؤلّف بينها ميل أو انتماء سوى الحرص على الغنائم و التشبث بالمواقع و الفوز بالامتيازات تمارس كل أنواع الاستبداد و القهر و صنوف الإقصاء و التهميش لتفرض إرادتها الأحادية على الجزائريّين من خلال مسرحية هزلية ممجوجة تسمى الانتخابات الرئاسية يكون فيها الرّئيس المريض مرشَّحًا و غائبًا و مغيَّبًا عن الحملة الانتخابية ثم يُراد له أن يفوز بولاية رابعة!
تصر هذه العصابة،إذنْ، إصرارا شديدا على أن يكون بوتفليقة الذي أنهكه المرض فأقعده و سلبه حركته فأعجزه و أفقده القدرة على الاستيعاب و الكلام و منعه من المتابعة و الإلمام هو الرّئيس الفائز في انتخابات 17 أفريل القادم.
إن رجلا هذه حاله غير قادر على القيام على أمر نفسه فكيف يراد له أن يكون قيِّمًا على أمور النّاس.إن رجلا هذه أوصافه غير قادر على تولّي مسؤولية أسرة واحدة فكيف يراد له أن يكون مسؤولاً على بلد كبير كالجزائر ذي الطّاقات الحيّة و التّحديات الكبرى ؟! 

و قد بلغت الوقاحة مبلغها لدَى هؤلاء المغامرين ذَوي المصالح و المواقع الذين يقودون الجزائر إلى المجهول حين يصرّحون بأنّ اختيارهم،و فرضهم، لهذا الرجل المريض رئيسًا قادمًا للجزائر يعود سببه لكَون بوتفليقة صاحب الإنجازات الكبيرة هو وحده،أو هو سبحانه، حامي الجزائر من أعدائها المتربّصين بها في الدّاخل و الخارج و هو،أيضًا، ماضي الجزائر و هو حاضرها و مستقبلها!
إن هذا الهُراء الكبير الذي تقوم بتسوّيقه عصابة المغامرين التي تُحيط ببوتفليقة الرئيس المريض و هذا الإفك المُبين الذي يتولَّى كِبرَه الإعلامُ الموالي و أدعياء الوطنيّة و أشباه السّياسيين و مثقّفو الخدمات و أنصاف المتعلّمين و التّدين المغشوش و أصحاب المصالح و ذوو المواقع و طلاّب الامتيازات...
إن هذا الهُراء و الإفك و الذين من ورائه هو جزء كبير من مشكلة الجزائر المعاصرة التي تتمرّغ في السّلبية و الرّداءة و هو سبب من أسباب تأزيم الوضع و تعقيد هذه المشكلة و ليس وسيلة من وسائل فهمها أو حلّها.

لقد جاء السيد عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999 و علّق الجزائريّون آمالاً كبرى على مجيئه.و الذي جعل هذه القلوب تهفو إليه و تحتضنه هو أنه جاء بخطاب جديد كان منتظرًا خلاصته تحقيق سيادة القانون و شيوع العدالة و إعادة بناء هياكل الدولة المترهّلة و إشراك أجيال الاستقلال ذات المعرفة و الوعي في تسيير أمور البلاد و إعادة بناء الجزائر و وضعها في الطريق الصحيح لتستقبل بقوّة و جدارة الألفية الثالثة.
و لكنّ بعد خمس عشرة سنة من الحكم و بعد ثلاث ولايات متتاليات يكتشف الجزائريّون أن ما تحقّق لا يكاد يُبين و أنّ شيئًا لم يتغير و أن أوضاع الجزائر تسير،كعادتها، نحو التّأزّم و التوتّر و الكساد.
أمّا مظاهر الانتكاسة التي حصلت فهي لا تخفى و لا تكاد تُحصى كظاهرة الفساد المستشري في قمّة هرم السّلطة و عند أدعياء المسؤولية و النّزاهة و جرأة المسؤولين و عدم محاسبتهم و انحطاط مستويات التعليم و ضحالة الأفكار و فَقر الخيال و تَغييب الإبداع و اضمحلال الشّخصية الإنسانيّة و شحوبها و غياب التّطوير و التّنمية و تشويه قيمة العمل و الإثراء الفاحش بأيّ ثمن و وجود مستويَين لتطبيق العدالة و القانون و انتشار الرّشوة التي أصبحت رياضة وطنية و تبذير المال العام و النَّهب و السَّلب لمقدَّرات الدّولة،كفضيحة سوناطراك و غيرها، و مسلسل السّرقات الذي لا ينتهي و ظاهرة الاختلاسات في معظم المؤسسات و شيوع المحاباة في كلّ القطاعات بدون استثناء و نسبة البطالة التي تتصاعد و غلاء المعيشة و تنامي ظاهرة الفقر بزوال الطبقة الوسطى و انتشار المخدّرات و الآفات الاجتماعية...

و الذي يُقضَى منه العجب أن البضاعة الوحيدة الرائجة،اليوم، في الجزائر و قد زادت،في عهد بوتفليقة، انتعاشًا هي الرداءة و التعفن.الرداءة في الفكر و الأداء.و الرداءة في السلوك السياسي و السلوك الاقتصادي.و الرداءة في السلوك العلمي و الثقافي.و الرداءة في كل  سلوك و خطوة و في كل  رؤيا و مشروع.و هذه الرداءة السّارية في المجتمع و الطّاغية في كلّ مكان يُخفيها كثيرًا و لا يُظهرها بل يُزيّنها و يُحسّنها المال الموفور و البحبوحة الماليّة التي تَنعم بها الجزائر.

أمّا التعديل الدستوريّ الأخير الذي أقدم عليه الرئيس بوتفليقة في نوفمبر 2008 و مسّ المادة 74 من الدستور فقد كان القشّة التي قصمت ظهر البعير.و لم يستسغ،جموع الجزائريّين، هذا الاعتداء على الدستور بالطريقة التي تمّ بها فأصبح عدد الولايات الرئاسية مفتوحًا غير محدّد بعد أن كان دستور 1996 قد حدّدها باثنتين.
و الأمر الآخر الفاضح هو أن موعد التصويت على هذا التعديل الدستوريّ،في البرلمان، كان مسبوقًا بزيادات كبيرة في أجور النوّاب ممّا اعتبره الملاحظون رشوة مكشوفة أو ابتزاز علنيّ بتوفير الرّفاهية و لين العيش مقابل التصفيق و الطواعية و الإذعان.
و لقد حاولت جهات كثيرة متواطئة آنذاك،داخل النظام و خارجه، أنْ تبرّر هذا التعديل الدستوريّ و جعله هيِّنًا متقبَّلاً رافعين لواء الإنجازات التي تحقّقت.
و لكنّ الذي يَطويه هؤلاء المتواطئون و لا يُعلنونه أنّ هذه الإنجازات،و هي ليست محلّ اتّفاق عامّ، مهما كان حجمها و نوعها لا ينبغي أن تُخوّل أحدًا،و لو كان رئيس الدولة، الحقّ في أن يغيّر مادّة دستورية دون الرجوع إلى الشعب أو أن يضع قانونًا على قدّه يخدمه و يُواتيه.

و لقد كان طبيعيًّا،في ظلّ هذا التعديل الدستوريّ الأخير و ما سبقه من إجراءات، أنْ تعود الجزائر إلى الماضي و إلى عهد الأحادية الرّديء و الاستبداد الكالح باسم ضمان الأمن و السّلم و الاستقرار و أنْ يعيش الجزائريون،في الألفيّة الثّالثة، فترات أليمة من ماضيهم في حكم بوتفليقة الذي جاء بالوجوه القديمة من أصحابه القُدامى و أنْ تنتعش قيم السّلبية و الرّداءة و تتغلّب ظواهر التعفّن و الانسداد و أنْ يتحوّل العمل السياسيّ إلى لعبة بين الرئيس و الذين معه و بين مجموعة من الأجهزة و جماعات الضغط التي تتقاسم المصالح و تتوارث الغنائم و الامتيازات.

لقد اكتشف الجزائريون أن عبد العزيز بوتفليقة الذي وعدهم،منذ مجيئه، بإصلاحات كبيرة في حياتهم و في مقدّمتها إصلاح هياكل الدولة و التجديد في أساليب الحكم و تطبيق العدالة و سيادة القانون و فسح المجال أمام الأجيال الجديدة خاصّة أجيال الاستقلال من حاملي الشهادات العليا في كلّ العلوم و المعارف و الاختصاصات للمشاركة في خدمة البلاد و تنميتها...
اكتشف الجزائريون،إذنْ، أن هذا الرئيس يخدعهم و يَقلب لهم ظهر المجنّ و يُقدم على مثل هذه القرارات الفاضحة و التّعديلات و كأنه يفضّل للجزائر أن تعيش حبيسة الماضي بدلاً من أن يحتضنها أبناؤها من أجيال الاستقلال و الذين من بعدهم و يهيّئوا لها كلّ الظروف المواتية،وهم قادرون على ذلك، لتسكن المستقبل و تعيش الألفية الثالثة بعيدًا عن حساسيات النظام القديمة و حساباته البالية و صراعاته البائسة التي يدفع الجزائريّون ثمنها الباهظ منذ الاستقلال.
لقد اكتشف الجزائريون،بعد سنين قلائل، أن عبد العزيز بوتفليقة الذي وَعد لم يَفِ و أنه صدم شعور الكثيرين و خيّب ظنّهم حين قام بتعديل المادة 74 من الدستور لتضمن له،و لحاشيته، البقاء في الحكم أمدًا طويلاً و هو الذي كان يعيب على الذين من قبله أنهم وضعوا دساتير على قدّهم و تَبعًا لأهوائهم و بذلك يكون هذا الرّجل قد تمخّض فولد فَقرًا.

أمّا المعارضة السّياسية التي تأكل على موائد النظام و يسيل لُعابها أمام الغنائم و الحظوظ فهي تعارض هذا النظام لتوافقه و تهاجمه لتصفّق له و تنتقده لتتمنّى بقاءه و دوامه و هذه قمّة المعارضة السّياسية،في الجزائر، و أنضجها و أوعاها!
و لقد استطاع النطام القائم،في عهد بوتفليقة، كَسب ولاء كلّ المعارضة و تدُجِّينها بوسائل مختلفة كتدفّق الأموال و المنافع و توزيع الغنائم و الامتيازات حتى أصبح نشاطها الوحيد الذي تظهره و لا تُخفيه هو خدمة النظام و إطالة عمره لا محاولة إزالته أو إصلاحه و تقويمه.

هذه هي حال الجزائر بعد خمس عشرة سنة من حكم بوتفليقة.و هذه هي بعض مظاهر الأزمة و ظواهر التّخلف و السّلبية و الانسداد في بلد يملك كلّ عوامل الإقلاع و أسباب التّفوق و النّجاح.
إن الأمر،هنا، لا يتعلّق بشخصية السيد عبد العزيز بوتفليقة مع احترامنا له و لكنه يتعلّق بالجزائر و بمستقبلها و باحترام الدستور فيها و القوانين من قِبل الجميع و بضرورة تجديد الطاقات و إطلاق المبادرات و فسح المجال أمام أجيال الاستقلال لتشارك في عملية البناء و التشييد و بوجوب التجديد في الوسائل و الأفكار و الهياكل و الأساليب و إيجاد دينامكية حقيقية تجعل الجزائر قادرة على الخروج من النّفق المظلم و تحقيق القفزة النوعية المأمولة التي تضمن لها الإقلاع و استقبال الألفية الثالثة بذكاء و جدارة و اقتدار.

إن خلاصة ما يمكن التّأكيد عليه في هذا العرض شيئان اثنان أساسيّان و هما:
أوّلاً: أنّ الجزائر بلد حباه الله بكل الخيرات: فهو بلد كبير و ثروات كُبرى و أقاليم متنوعة و أراضي خصبة و طاقات بشرية متجدّدة و موقع استراتيجي...و إنّ المرء ليَعجب كيف تتظافر مجموعة من عوامل النّجاح و الامتياز لتساهم في نشأة هذه الأحوال الكالحة و الأوضاع المُزرية التي تحيا فيها الجزائر المعاصرة و تتكاتف لصناعة هذا المصير البائس الذي هي سائرة إليه.
ثانيًا: أنّ سبب الأزمة،في الجزائر، هو هذا النظام القائم،منذ الاستقلال، الذي لا ينتعش إلاّ في أجواء الرّداءة و التّعفن و هو يقود البلاد إلى مزيد من الكسور و الحطام و أنّ الجزائر في حاجة ماسة إلى تغيير النظام أو إسقاط هذا النظام المترهّل الذي عطّل طاقات الجزائريين و فرض عليهم أنْ يَحيَوا في حَمْأة البلادة   و الرّداءة و السّلبية و التّعفن و أنْ يعيشوا بعقلية سكان القرون الوسطى المظلمة في الألفيّة الثالثة. 

و لقد استطاعت الحلول الماليّة التي سارع إليها هذا النظام،منذ 2011، عقب الانتفاضات العربية التي شعر بوطأتها و خطورتها أن تهدّئ من التّوتر قليلاً و أن تمتصّ الغضب الشّعبي من سوء الأوضاع و تفاقمها. 
و لكنّ هذه الحلول الماليّة،التي كان يتبجَّح بنفعها و أهمّيتها رئيس الوزراء السّابق، ليست حلولاً مضمونة النّتائج دائمًا و ليست حلولاً ناجعة أبدًا لأنها تخفّف من الآلام و الأوجاع فقط و لا تعالج الدّاء أو تشفي من الأمراض.
ثمّ إنّ الوعي الشّعبي،في طبقاته المختلفة، الذي بلغ مستوًى من النّضج و التّمييز لم يَعد قادرًا على تجرّع قيم السّلبية و الرّداءة و التّعفن السّارية في المجتمع أو تقبّل سلوك هذا النّظام الذي لا يُحسن سوى سياسة واحدة هي سياسة الهروب إلى الأمام و تكميم الأفواه و شراء الذّمم و الولاءات و حرمان الجزائريّين من حقّهم الطّبيعي في التّعبير عن إرادتهم الحرّة في كلّ المناسبات.

إنّ الانتخابات السّابقة في الجزائر، كيفما كان نوعها، لم تحقق المأمول و لم تَضع البلد في الطّريق الصّحيح و لم تصنع أبدًا القطيعة مع سلوك الرداءة و ممارسات الاستبداد.و الانتخابات الرئاسية المقبلة بفصولها الهزليّة و مظاهر الشّعوذة السّياسية التي صاحبتها لن تغير في هذا الأمر شيئًا.
و إنّ العمل الجادّ الوحيد الذي تنتظره الجزائر و يكون كفيلاً بتحقيق نهضتها و ضمان إقلاعها هو تغيير هذا النظام الذي استنفد أغراضه كلّها و لم يَعد قادرًا على مسايرة التّطورات الكبرى الحاصلة في المجتمع الجزائري أو مواكبة أخرى تضاهيها في الكون و العالم. 




السبت، 1 مارس 2014

في الذكرى 25 لقيام اتحاد المغرب العربي: مغرب الشعوب أو مغرب الحكام ؟




لقد مرّ ربع قرن على القيام الرسمي لاتحاد المغرب العربي الذي يضم الجزائر و المغرب مضافًا إليهما موريطانيا و ليبيا و تونس و لم تَرَ شعوب المنطقة،بعدُ ،ثمرات هذا الاتحاد.
و هذا الوضع ليس عجيبًا ذلك أن الوحدة المغاربية لا تشارك في صنعها هذه الشعوب البتّة خلافًا لواقع  التجمّعات الإقليمية،في العصر الحديث، و المشاريع الكبرى المختلفة التي سلكت طرقًا ذكيّة و تبنَّت وسائل ناجعة ظاهرها المشاركة الشعبية الواسعة التي تستمدّ منها المشروعية و الموالاة و باطنها الحماس الجماهيري الكبير الذي يحتضنها و يَأويها و يشحنها بمزيج من معاني التحدّي و المحاولة و الإصرار و يوفِّر لها،في الأوّل و الآخر، نصيبًا كبيرًا من أسباب الحماية و التوفيق و النجاح و التحقيق.
     
و الواقع أن اتحاد المغرب العربي الذي ليس له من أوصاف الوحدة و الاتفاق سوى الشعارات الفارغة و العبارات الجوفاء- هذا الاتحاد الذي صاحبت ولادته الرسمية يوم 17  فيفري 1989،في مراكش بالمغرب، آمال شعبية كبيرة و تفاؤل عريض قد خيَّب كلّ الظنون و كذَّب كلّ التنبؤات و لم تَجنِ منه شعوب المنطقة،أبدا، ما يجعلها تفخر به أو تحرص عليه.و ليس من المبالغة القول بأن مشروع هذا الاتحاد قد وُلد ميِّتًا و لم تكن تلك الندوات و المؤتمرات سوى محاولة يائسة لزرع الحياة في جثة هامدة.

و لئن كانت قضية الصحراء الغربية قد عكّرت صفو العلاقات الجزائرية المغربية و عطّلت مسيرة الاتحاد المغاربي منذ زمن طويل فإن قضية لوكربي التي اتهم فيها السلطات اللّيبية بتفجير طائرة ركاب أمريكية فوق القرية الاسكتلندية سنة 1988- هذه القضية كان لها أثر آخر هدَّام حين امتنعت ليبيا عن تولِّي الرئاسة الدّورية للاتحاد بحجّة أن الدول الأعضاء لم تُبدِ معها التضامن الكامل و المساندة المطلوبة في إبّان الحصار المفروض عليها و الذي دام عشر سنوات.
و لقد كان من النتائج الأولى لهذه المقاطعة و التّدابر و الخصومة و الإعراض،مضافاً إليها مجموعة ظروف أخرى، أنْ جُمِّدت نشاطات هذا الاتحاد مدة خمس سنوات في نهايات القرن الماضي.
و قد يكون ما سبق بيانُه تفسيراً مقبولاً،عند البعض، لفهم حالة الاحتضار التي يعيشها الاتحاد المغاربي.و لكنّ ملاحظين آخرين يضيفون بأنّ السبب الرئيسي هو غياب الإرادة السياسية الحقيقية التي تملك الحماسة اللاّزمة و الجرأة الكافية للانتقال بهذا المشروع الإقليمي من طور النظرية و الشِّعارات إلى طور البناء و التشييد و أنّ صراع الزعامات المترهلة و تقلّب الأمزجة و الحسابات السياسية الضيقة هي مصدر العطب في جسم هذا التجمّع الإقليمي المأمول.

إنّ الوحدة المغاربية تحتاج في قيامها و تقوية أركانها إلى دعامتين اثنتين أساسيتين:
أولاً: إرادة سياسية صادقة و عزم ظاهر على خدمة الشعوب المغاربية و تحقيق آمالها الكبرى.
ثانيًا: إرادة شعبية قوية تحتضن هذه الوحدة و تسندها و ترعاها و تحميها من كلّ خطر أو عدوان.
و لئنْ كانت شعوب المنطقة تهفو أفئدتها إلى هذه الوحدة و تتطلّع،في صدق، أن تقيمها في واقعها فإن الإرادة السياسية المسيطرة على القرار في الدول الخمس لا زالت بعيدة كلّ البعد عن كلّ عمل جادّ يختصر الطريق إلى هذه الوحدة أو يُنْبِئ عن قرب ميلادها.و الذي تشاهده العين و تلمسه اليد أن الوحدة المغاربية تسير في طريق غير مأمون و تسلك سبلاً وعرة بإبعاد الشعوب عن كلّ قرار يصنع هذه الوحدة أو يمهِّد لها.
و أوضح مثال على هذا التهميش أن مجلس الشورى المغاربي الذي أُنشئ في الجزائر سنة 1989 و كان،في البدء، يتألّف من عشرة أعضاء عن كلّ بلد يختارون من المجالس النيابية الوطنية ثم ارتفع عددهم،في ما بعد، إلى ثلاثين- هذا المجلس الذي هو مؤسسة استشارية لدى مجلس رئاسة الاتحاد إنما وُلد بقرارات فوقية و تعيينات رسمية و لم يكن نتيجة انتخابات تمكِّن شعوب المنطقة من اختيار ممثِّليها الحقيقيِّين الذين تراهم أكثر قدرة بل أكثر جرأة على تجسيد هذا المشروع الإقليمي.

ثم إن هناك خطرًا آخر يهدّد الوحدة المغاربية المأمولة و هو خشية احتوائها من الاتحاد الأروبي و تفريغها من محتواها و تحويلها عن مسارها الحقيقيّ أو جعلها مجرّد سوق لبضائعه الرائجة.
و في غياب الإرادة السياسية الحقيقية في الدول المغاربية و في ظل مظاهر الترهل الغالبة على مواقفها فقد نجح الاتحاد الأروبي الذي يملك من وسائل الضغط و التضييق و من وسائل الإغراء المختلفة في احتواء الاتحاد المغاربي و جعله كيانا مفككا تابعا له و بناء فارغا من كل معنى.
و من مظاهر البؤس و الضنى في الاتحاد المغاربي و من علامات التشتت و الانكسار التي تلازمه أن الدول المغاربية تتسابق،فرادى، لعقد صفقات تجارية مع الأروبيين في حين أن حجم تجارتها البينية لا يكاد يبين.
و قد أثبتت دراسات موثوقة أن حجم التبادلات التجارية بين دول الاتحاد المغاربي تترواح بين 2 و 3% في حين أن حجم هذه التبادلات نفسها مع الاتحاد الأروبي قد تبلغ 60%.و الذي يقضى منه العجب أن صناع القرار في المنطقة المغاربية قد طفقوا،في السنوات الأخيرة، يخوضون مفاوضات شراكة مع الاتحاد الأروبي و هم آحاد متفرقون.
و حجم هذه التبادلات التجارية بين الدول المغاربية الذي لا يتعدى 3% يمثل أدنى المعدلات مقارنة بما هو كائن في بعض التجمعات الإقليمية الأخرى كالمجموعة الاقتصادية لدول جنوب شرق آسيا Asean التي يصل حجم تبادلاتها التجارية إلى 22%.
     
إنّ اتحاد المغرب العربي الذي تعاقدت النّيات،في البدء، على جعله مغربًا للشّعوب يخدم مصالحها و يحقّق آمالها و تجمّعا إقليميًّا كبيرًا،في الضّفة الجنوبية للبحر المتوسط، غنيًّا بثرواته البشرية و الطبيعية - هذا الاتحاد قد انحرف عن مساره و فقد مصداقه و أُفرغ من  ماهيّته و محتواه و أصبح مغربًا خاصًّا بالحكام أو ناديًا من نواديهم يلجئون إليه،بين الفينة و الأخرى، للتّسكع أو الاستجمام.
إنّ المتابعة الدّقيقة للأوضاع منذ القيام الرسمي لاتحاد المغرب العربي في 17 فيفري 1989 و استنطاق الأحداث و جَرد المنجزات و تَعداد المشاريع التي تحقّقت في الحياة اليومية و في واقع الناس...كلّ أولئك يقود الملاحظ النّزيه إلى استنتاج واحد واضح خلاصته أنّ القيادات السياسية التي تَنادت،من قبلُ، إلى بناء الوحدة المغاربية- هذه القيادات السياسية لم تكن تؤمن بهذه الوحدة،و لا بأيّ وحدة، و لم يكنْ لها سوى مشروع واحد كبير تحيَا له و تموت من أجله و هو أنْ تبقى في الحكم و تتشبّث به مُستحلّة كلّ الوسائل و دائسة كلّ القيم و لا يهمّها ما يحصل بعد ذلك من تدمير للنفوس و الأبدان و تعطيل للعقول و الطاقات و خراب للبلاد و الأوطان.

إنّ المنطق القائل بأنّ المشاريع الكبرى هي مسؤولية الحكّام و السّاسة وحدهم- هذا المنطق قد ولَّى زمانه و اندثر منذ ثمانينيات القرن الماضي الذي شهد ميلاد صحوة الشّعوب و كان بداية التّحولات السياسية في كثير من بقاع العالم و كذلك ليس له رصيد من الواقع و لا يملك سندًا من التاريخ.
و أقرب مثال إلينا هو مسيرة الاتحاد الأروبي و العقبات التي واجهت قيامه و بناءه منذ خمسينيات القرن الماضي.فكان يكفي أنْ يستعلن الرّفض الدنماركي لاتّفاقية ماستريش في جوان 1992 و أنْ يظهر التّأكيد الفرنسي الضّعيف لهذه الاتّفاقية في سبتمبر 1992 حتىّ تدقّ بروكسل ناقوس الخطر و يُعقد مؤتمر قمة طارئ للمجموعة الأروبية في مدينة برمنغهام في أواسط أكتوبر من السّنة نفسها لبحث هذه المشكلة.و قد انتهت هذه القمة بإبداء الاحترام الواجب للإرادة الشعبية المستعلَنة و بضرورة إشراك الشعوب الأروبية في عملية بناء البيت الأروبي الكبير.

إنّ الوضع الحالي لاتحاد المغرب العربي لا يبشّر بخير و ليس لشلله المقصود أيّ مستقبل في وسط هذه الأجواء الموبوءة المصطنعة هنا و هناك.و يُجمع المراقبون أنّ هذا البناء المغاربي لن يتحسّن وضعُه و أنّ هذا الأمل الإقليميّ لن ينتعش حاله أبدًا دون إشراك شعوب المنطقة في هذا البناء الكبير.
إنّ تهميش الإرادة الشعبية في دول المغرب العربي و عدم إشراك الشعوب في صياغة مشروع هذه الوحدة و تسطير أهدافها و رسم مراحلها و تحديد أولوياتها...كلّ أولئك سيجعل هذه الوحدة حلمًا بعيدًا أو أمرًا مستحيلاً.
إنّ شعوب المنطقة لَتهفُو أفئدتها بصدق إلى قيام اتحاد المغرب العربي الكبير.و المؤمَّل أنْ تبادر الجهات الرسمية،في ظل الأجواء العربية الجديدة، لاستعادة وعيها المفقود و تكون القيادات المغاربية في مستوى هذا الطّموح المشروع فتتسلّح بالإرادة السياسية الحقيقيّة و تسير بخطوات ثابتة محسوبة،بلا خوف أو وَجَل، نحو بناء هذا التّجمع الإقليميّ الواعد مدعَّمة بالإرادة الشعبية الواسعة التي تعبِّر عن وجودها بمشاركتها في بناء هذا المشروع و تحقيقه.

لقد مرّ ربع قرن،إذنْ، على القيام الرسمي لاتحاد المغرب العربي و لم تَرَ شعوب المنطقة،بعدُ، ثمرات هذا الاتحاد لأنها لم تُدعَ إليه و لم تشارك في بنائه.و المؤمَّل أن ينتعش هذا المشروع الإقليميّ في ظلّ الثّورات العربية التي عصفت ببعض الزعامات المترهّلة و أنْ يعاد الاعتبار الكامل لشعوب المنطقة و أنْ تحظى بالاحترام الواجب إرادتُها الظاهرة فتشارك في عملية بناء هذا البيت المغاربي الكبير.

اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها ؟

  https://arabicpost.net/opinions/2023/12/20/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-4/